تتجه العلاقات الجزائرية الفرنسية إلى ترسيخ مقاربة جديدة يتداخل فيها البعد السياسي بالاقتصادي، وتعتمد منطق الترابط لضمان مصالح الطرفين، وتحتمل هذه المقاربة تقديم الجانبين لتنازلات وإبداء ليونة في التعامل مع العديد من الملفات، وهو ما اتضح جليا في إسراع الطرف الجزائري لاعتماد تشريعات وقوانين خاصة تصب في مصلحة الطرف الفرنسي أولا، ويتعلق الأمر بالسماح للشركات الجزائرية بالاستثمار في الخارج، فضلا عن القبول بمشاريع تركيب فرنسية تضمن الإبقاء على نشاط الشركات الفرنسية الرئيسي، فيما عمد الجانب الفرنسي إلى تشجيع مجمعات بإقامة مشاريع جديدة في الجزائر. وبدأت التوجهات الجديدة تتضح مع تعيين مسهل للاستثمار ممثلا في جون بيار رافارين، والذي خلفه مؤخرا جون لويس بيانكو، وتنظيم أول منتدى للأعمال الفرنسي الجزائري في 2011 بالجزائر، مع تحديد 14 مشروعا تم تجسيدها. في السياق نفسه، اعترف الجانب الفرنسي بأن مفهوم ‘'منطقة النفوذ الخاصة'' قد ولّى، وأن المصالح الفرنسية مهددة بانفتاح السوق الجزائري على منافسين أقوياء، لاسيما الصين والدول الصاعدة، فضلا عن عدد من البلدان الأوروبية، ما يحتم على باريس إعادة النظر في توجهاتها، لتدارك التأخر المسجل وتدعيم تموقع المؤسسات، رغم التأكيد على أن فرنسا تظل أهم مستثمر خارج المحروقات في الجزائر ب2.5 مليار أورو، وتواجد 450 مؤسسة. وإن تم الاعتراف بأن ‘'حصة المؤسسات الفرنسية في السوق تراجعت من 30 في المائة منذ بضع سنوات خلت إلى 15 في المائة حاليا، علما بأن السوق الجزائرية لم تعد تسيطر عليها المؤسسات الفرنسية، ولكن تشهد منافسة حادة من قبل الشركات الصينية والتركية والأوروبية. وعليه، فإن رسائل أخرى وجهت للشركات الفرنسية من أجل تحديد مشاريع يمكن تجسيدها، مع التزام الطرفين بتقديم تسهيلات لها لتجسيدها، وفقا لمنطق جديد يضمن الإبقاء على النشاط الرئيسي لها لتفادي توقيف النشاط في فرنسا أو بلدان أخرى، وإفادة الجزائر بنشاطات جديدة “خاصة متصلة بالتركيب والتجميع” بنسب إدماج متدرجة، وهو ما حدث مع مشروع رونو لتركيب “داسيا لوغان” تحت تسمية “سامبول الجديدة” بنسبة إدماج تقدر ب17 في المائة وتتدرج لتصل إلى 42 في المائة، ومشروع ألستوم لتركيب قاطرات التراموي بعنابة. وإلى جانب استفادة عدة شركات فرنسية من طلبيات وعقود تفويض تسيير متعددة، منها تسيير مطار الجزائر من قبل “مطارات باريس” ومترو الجزائر من قبل “شركة النقل الباريسي” والمياه ل”سويز” وتجهيز مشاريع التراموي ل«ألستوم”، فإن الرسائل الفرنسية المتعددة التي أطلقها لأول مرة كاتب الدولة للتجارة السابق بيار لولوش بتشجيع الشركات والمؤسسات الجزائرية بالاستثمار في الجزائر، ثم المساعي التي قام بها وزير الخارجية لوران فابيوس والاقتصاد والصناعة إيمانويل ماكرون في الاتجاه نفسه، أتت بنتائج من خلال إقرار الحكومة الجزائرية لتشريع جديد يسمح للشركات الجزائرية بالاستثمار في الخارج، وتضمنت الإجراءات المساهمة في رأسمال الشركات، وهو ما سيفسح المجال في إمكانية دخول رأسمال جزائري في شركات فرنسية تواجه صعوبات مالية، على غرار ما قام به رجل الأعمال ايسعد ربراب سابقا مع شركتي “أوكسو” و«فاغور برانت”، ويعتبر هذا المسعى دعما لتوجه جديد قد تتضح معالمه خلال الشهور المقبلة، والتي يفهم منه دعما جزائريا لباريس. بالمقابل، فإن اللجنة الحكومية العليا المشتركة التي ستجمع في باريس بين عبد المالك سلال وايمانتويل فالس في 4 ديسمبر المقبل، تكشف عن التوجه نفسه، مع التحضير ل21 ملفا استثماريا فرنسيا ودعما لتواجد فرنسي أكبر، لاسيما من خلال الإعلان عن مشروع تركيب الحوامات أو الطائرات المروحية من قبل “أرباص هيليكوبتر” المعروفة تحت تسمية أوركوبتر، والتي سبق لها وأن جهزت الجزائر بالعديد من الطائرات المروحية التي تستخدم من قبل أجهزة الأمن والحماية المدنية والدرك والجمارك، وسيضاف إليها ملفات متعددة لشركات فرنسية في قطاعات صناعية، منها الصناعة الصيدلانية.