ماذا تبقى من رواية “المزاح” لميلان كونديرا، بعد مرور أكثر من أربعين عاما على نشرها؟ كيف نقرأ اليوم رواية أدرجت ضمن خانة الأعمال السياسية التي ساهمت في فضح النظام الستاليني، بعد انتهاء دواعي كتابتها؟ وهل توجد أبعاد جمالية وفلسفية، غير الأبعاد الإيديولوجية في رواية كونديرا؟ ماذا تبقى من رواية “المزاح” لميلان كونديرا، بعد مرور أكثر من أربعين عاما على نشرها؟ كيف نقرأ اليوم رواية أدرجت ضمن خانة الأعمال السياسية التي ساهمت في فضح النظام الستاليني، بعد انتهاء دواعي كتابتها؟ وهل توجد أبعاد جمالية وفلسفية، غير الأبعاد الإيديولوجية في رواية كونديرا؟ كتب الناقد الفرنسي فرنسوا ريكار عن رواية “المزاح”، وهو يجيب عن هذه التساؤلات، ما يلي: “تعتبر مؤلفات كونديرا أشد الأعمال التي نقرأها اليوم تحت إلحاح الحاجة. وأستعمل كلمة “إلحاح” بمعناها الجذري المطلق، بمعنى أن هذه الأعمال تقدم للعقل والقلب تحديا يصعب تقويمه إلى حد بعيد، ويحتم علينا البحث مجددا عن أنفسنا. أن نستسلم ونوافق حقا مجازفة قد تقودنا إلى أبعد مما كنا قد أردنا اعتقاده، إلى حدود الوعي تقريبا، إلى هذه الكوكبة المُدمرة التي يكتشف بطل رواية “المزاح” نفسه فيها عند نهاية الرواية. وتكون القراءة في هذه الحال، خرابا حقيقيا”. وتكمن أهمية رواية “المزاح” التي صدرت في تشيكوسلوفاكيا سنة 1967، في كونها ساهمت في تحقيق النقلة السياسية في أوروبا الشرقية، من الأنظمة الشمولية إلى التعددية والديمقراطية، وروّجت لتيار أدبي ساهم في تفعيل جنس روائي سمي لا حقا بأدب “الانشقاق”. نشر كونديرا رواية “المزاح” رغم الرقابة المفروضة من قبل الحزب الشيوعي الحاكم الذي شرع في توجه سياسي انفتاحي نوعا ما مع بداية الستينيات. وبعد سنة من نشر الرواية، وقعت أحداث “ربيع براغ” في أوت 1968، فعرفت رواجا منقطع النظير في الغرب بالأخص، حيث اهتم النقاد ببعديها السياسي والأيديولوجي المعادي للستالينية، على حساب أبعادها الجمالية والفنية. وحسب فرنسوا ريكار دائما، فإن النقاد في الغرب “اعتبروا هذا العمل بمثابة رواية مُلتزمة، ووثيقة اجتماعية وبيان سياسي. رأوا فيها دليلا ماديا قويا في المحاكمة التي كانت تستهدف النظام الستاليني آنذاك، وكل أشكال الشمولية”. وظل النقاد يقدمون قراءات سياسية لأعمال كونديرا عقب الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا، وحتى أعماله اللاحقة “الحياة هي في مكان آخر” و«فالس الوداع” قُرئت سياسيا وأيديولوجيا. وبالفعل، كان كونديرا قد ألقى على عاتقه مهمة فضح تجاوزات الأنظمة الستالينية الحاكمة في أوروبا الشرقية آنذاك. صحيح أن هذه القراءة ليست خاطئة، من منطلق أن كل عمل إبداعي يستجيب لروح العصر، وكثر القراء الذين كانوا يدافعون عن “الأدب الانشقاقي” من زاوية أنه ساهم في تدمير الشمولية والستالينية، وذلك هو الإحساس الذي كان يطغى بعد القراءة الأولية لهذه الرواية إلى غاية الثمانينيات، لكن بعد إعادة قراءتها بعد مرور عدة سنوات على القراءة الأولى التي ارتبطت بوضع سياسي معين، هو سقوط جدار برلين، ورحيل أباطرة الأحزاب الشيوعية، تبرز تفاصيل أخرى وأبعاد جديدة لهذه الرواية التي ستبقى من أهم روايات القرن العشرين. وتقدم رواية “المزاح” صورة واقعية عن المناخ السياسي الذي كان سائدا في تشيكوسلوفاكيا بين نهاية الأربعينيات ووصول الشيوعيين للحكم، ووسط الستينيات التي شهدت بدايات الانفراج السياسي التي أدت إلى مأساة أحداث ربيع براغ سنة 1968، حيث قامت القوات السوفييتية بقمع أنصار الانفتاح والديمقراطية. وقد ارتبط مصير الشخصيات الرئيسية في هذه الرواية (لودفيك جاهان، هيلينا، جاروسلاف، كوستكا وزيمانيك) بظروف تلك المرحلة التي حولت مصائرهم إلى مأساة حقيقية على المستوى الفردي والجماعي. ويمكن اعتبار هذه الرواية، على حد تعبير فرنسوا ريكار دائما، بمثابة العمل الأدبي الذي يثير احترام المؤرخين وعلماء الاجتماع على حد سواء، من منطلق أنها (الرواية) تملك القدرة على التعبير عن بعض الحقائق التاريخية بخصوص مرحلة من المراحل التاريخية. غير أن “المزاح” هي أكثر من هذا، فالتعبير عن العصر هو أحد أهداف الرواية، للوصول إلى الهدف الذي ليس هو نفس هدف المؤرخ، ولا عالم الاجتماع، بل إنه هدف الروائي الذي يشتغل في عالم يدعى الفن. فالرواية التي لا يمكن أن نقرأها كلوحة اجتماعية أو تاريخية ولا كتعبير عن موقف سياسي وأيديولوجي معين لا تعتبر مثالا، وكل رواية واقعية تحتوي حتما على قراءة من هذا الشكل. ويعتقد ريكار أن المجهود الذي قام به كونديرا تمثل في التقليل من التأثير السياسي والأيديولوجي للرواية، أو على الأقل الحيلولة دون طغيانها على الجوانب الجمالية والفنية.