عمل الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم على توحيد كلمة المسلمين، فلم يمض على وصوله إلى المدينةالمنورة غير قليل، حتّى جمع المهاجرين والأنصار وآخى بينهم وجعل الرّابطة الإسلامية فوق العصبيات. ثمّ جمع المسلمين واليهود من سكان يثرب وكتب بينهم كتابًا هو بمثابة حلف أو عهد، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، ولعلّه في لغة هذا العصر دستور، بل أوّل دستور من نوعه عرفته العرب، وبه نشأت السلطة العامة العليا، الّتي تولاّها الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بإلحاح أهل المدينة وبإجماعهم عليه. قد ينكر بعضهم صحّة هذا الكتاب، لأنّه لم يرد في كتب الأحاديث الصّحيحة، ولكن كثيرًا من كتب الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لم يرد في كتب الحديث، وإنّما ورد في كتب التاريخ، وسواء أصحّت الألفاظ الّتي تضمّنها هذا الكتاب أم طرأ عليها شيء من الزّيادة والتّعديل، فذلك لا يضعف قيمته، لأنّ الأمر الّذي يعنينا كما قال الدكتور منير العجلاني في كتابه “عبقرية الإسلام في أصول الحكم” هو أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم جمع أهل يثرب والمهاجرين وأقام بينهم حلفًا، وجعلهم أمّة واحدة، وأنّهم فوّضوا إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم السلطة والزعامة، وأنّه عرّفهم بواجباتهم “المدنية” بوصفهم “مواطنين” يتناصرون ويتوفّر بعضهم على حرمات بعض، ويقومون جميعًا على من بغى وظلم ولو كان الظّالم منهم، وإذا حاربوا حاربوا جميعًا، وإذا سالموا سالموا جميعًا، ولم يجز لقبيلة منهم أو أفراد معدودين أن يعقدوا “صُلحًا منفردًا”. وإذا قتل أحدهم إنسانًا قُتل به، وليس لقبيلته أن تحميه وتتعصّب له، لأنّه خرج بعمله على نظام المسلمين كلّهم، ويجب على المسلمين كلّهم أن يقوموا عليه ويثأروا منه.