بلغت دعوة الإسلام أطراف الجزيرة النائية، فأمر عليه الصّلاة والسّلام بعض صحبه الكرام بتعليم النّاس مبادئ الدّين الحنيف، وعهد إلى آخرين بجمع العشور من البلاد الّتي دخل أهلها في الإسلام. وكانت الرّوح القبلية متأصّلة في بلاد العرب، وما كانت إلّا لتزداد قوّة ورسوخًا بتأثير الشّعراء حين يهجون أو يمدحون أو يفخرون، فتكون أبياتهم أشدّ فتكًا من السّهام. لذلك لم يَفُته عليه الصّلاة والسّلام أن يبني الإخاء الإسلامي أقوى بناء وأخلده للقضاء على العصبية القبلية، فكان حتّى وهو على فراش الموت يدعو القوم للتّآخي والتّواصي بالحقّ والتّواصي بالصّبر. وبعبارة أخرى، نقول إنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قد وجّه عنايته منذ قدم على المدينة إلى تسهيل سبل العيش على المهاجرين الّذين تركوا أموالهم في مكّة، ودعَا الأنصار إلى مساعدتهم كما آخَى بينهم وبين الأنصار، وكانوا يتوارثون بهذا الإخاء إرثًا مقدمًا على القرابة ثمّ نسخ بحكم قوله تعالى أواخر سورة الأنفال: {وَالّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إنَّ اللهَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِيم}. وكان لفرض الزّكاة على المسلمين بعد مقدم الرّسول صلّى الله عليه وسلّم المدينة، أثرٌ كبير في تحسين حال المهاجرين. وقد عمل الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم على توحيد كلمة المسلمين، فلم يمض على وصوله إلى المدينةالمنورة غير قليل، حتّى جمع المهاجرين والأنصار وآخى بينهم وجعل الرّابطة الإسلامية فوق العصبيات. ثمّ جمع المسلمين واليهود من سكان يثرب وكتب بينهم كتابًا هو بمثابة حلف أو عهد، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، ولعلّه في لغة هذا العصر دستور، بل أوّل دستور من نوعه عرفته العرب، وبه نشأت السلطة العامة العليا الّتي تولّاها الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بإلحاح أهل المدينة وبإجماعهم عليه.