إنّ تفشّي جائحة كورونا في هذه الأيّام وما صاحبها من إجراءات وقائية كغلق المساجد وأماكن التجمّعات، وفرض الحجر الصحي وغيرها، يجعلنا بحاجة إلى رفع مستوى الرّعاية النّفسية إلى أعلى درجاتها، لمَا لهذه الجائحة وصواحبها من تأثيرات على النّفوس الّتي تتفاوت من حيث المناعة والمقاومة، فهل إلى هذه الرّعاية من سبيل؟ وهل هي في متناول الجميع؟ وما مدى فاعليتها؟ إنّ الاتصال بكتاب الله تعالى هو أحد الموارد الّتي يهب بها الله تعالى القوّة الّروحية الّتي تُشِعّ البهجة في النّفوس وتُهوِّن المكابدات وتبعث الاطمئنان والسّكينة في القلوب، خاصة إذا كان هذا الاتصال في شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن. إنّ قراءة القرآن أو الإنصات للتّلاوات له تأثير على النّفسيات مهما تنوّعت وتعقّدت، كيف لا؟ وتأثيره تعدّى الإنس إلى الجنّ الّذين أنصتوا إلى تلاوة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلم يملكوا -وهم الجنّ- إلّا أن أعلنوا {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} الجنّ:1-2. وتأثير القرآن الكريم لم يتوقف على الإنس والجنّ فحسب، بل قد تعدّاهما إلى ما لا يُتصوّر تأثّره وانفعاله به، فأخبر الله قائلًا: {لَوْ أنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ}، والمعنى أنّ تأثير القرآن يبلغ أن يكون حتّى في الجبل الرّاسي والصخر القاسي إلى درجة التصدّع والتشقّق والهُوِي. ولو قُدِّر لجبال الأرض أن تزول وتغادر أماكنها وللأرض الصلبة أن تُقطّع فتتشقّق وتتباعد أجزاءً، وللموتى أن يكلَّموا فيُسمعوا ويستجيبوا، لكان ذلك بفعل هذا القرآن العظيم وتأثيره، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} الرّعد:31. إنّ سحر البيان القرآني لا يُردّ وإن فعله في نفوس مستمعيه لا يُصدّ، حتّى ولو كانوا من خصومه وشانئيه وأعدائه ومناوئيه، والأمثلة على هذا من السِّيرة النّبويّة كثيرة، نكتفي بذكرٍ مختصر لواحد منها يتعلّق بكبير من كبراء قريش هو عتبة بن ربيعة الّذي أرسلته قريش ذات مرّة مفاوضًا عنها لعلّه ينجح في إيقاف دعوة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو لعلّه يصل معه إلى شيء من التّنازل مقابل عروض ومغريات قرشية، فما زاده النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد استماعه إليه على أن تلا عليه آيات من سورة فصلت ففعلت فيه العجب، فانقلب إلى أصحابه فلمّا رأوه قالوا: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الّذي ذهب به. فَلَمَّا جَلَسَ إليهم قَالُوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: وَرَائِي أَنِّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا واَللهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاَللهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فاعتزلوه، فو الله لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ. قَالُوا: سَحَرَكَ وَاَللهِ يا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ، قال: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. لقد أدرك قادة قريش وزعماؤها وهم أرباب الفصاحة والبيان مدى تأثير القرآن في نفوس مستمعيه، ولهذا عمدوا إلى جملة من الوسائل للحيلولة بين القرآن وبين بلوغه مسامع النّاس، ومن بين تلك الوسائل: التّشويش وإثارة الفوضى وقت تلاوته لئلّا ينفَذ إلى الآذان فيفعلَ فعله في القلوب، قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} فُصِّلَت:26، أي ائتوا باللغط ونحوه وصيحوا في زمن قراءته {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون}. لقد أفحم القرآن الكريم فصحاء العرب وأعيى بلغاءهم حتّى قال أعلمهم بأنواع الشعر، الوليد بن المغيرة: وَاللهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلُهُ لَمُغْدِقٌ وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ. فإذا كان هذا تأثير القرآن الكريم في أعدائه الّذين طُبع على قلوبهم، فكيف يكون مفعوله في نفوس أوليائه الّذين شرح الله صدورهم واطمأنت به قلوبهم وتعلّقت به أفئدتهم ولهجت به ألسنتهم؟ إنّ الّذي يقرأ القرآن، خاصة ونحن في شهر رمضان وتحت وطأة الحجر الصحي الّذي أمدّنا بالأوقات الطويلة الّتي نقضيها ونحن ماكثون في البيوت، سيجد فيه ما يُغنيه عن أيّ ملل أو إحباط أو يأس لا قدر الله، وسيَجد فيه البلسم الشّافي والطمأنينة القلبية والسّكينة النّفسية، وصدق الله القائل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرّعد:28. فاللّهمّ اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وجلاء أحزاننا وذهاب غمومنا وهمومنا.. اللّهمّ آمين. رئيس مجلس الأمة