قال الأمين العام للمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، د. محمد البشاري، إنّ الأمّة “بحاجة إلى فقهاء جُدد متمكّنين من العلوم الشّرعية والنقلية ومن فهم الواقع وإدراكه”، محذّرًا من أنّه “لا يمكن إصدار أحكام فقهية دون مراعاة الظروف الّتي تعيشها المجتمعات المسلمة”. ودعا في حوار خصّ به “الخبر”، إلى “صناعة خطاب ديني جديد ومتجدّد، يؤمن بأنّ لكلّ مرحلة ولكلّ نازلة فقهها وخطابها، يختلف من دار إلى دار، ومن بلد إلى بلد، ومن زمان إلى زمان آخر”. تعاني بعض الأقليات المسلمة من اضطهاد مستمر كمسلمي ميانمار وإفريقيا الوسطى، فما دور المجلس في حلّ إشكالاتها؟ يواجه المسلمون في إفريقيا وفي جنوب شرق آسيا تحديات، ففي إفريقيا تحدي المرض والجوع والجهل، وهذا ما مكّن لحركات تصدير الثورة الخمينية من العمل على نشر المذهب الشيعي في هذه البلدان وفتح أقسام لجامعة مصطفى العالمية لأجل ضغط المشهد السياسي والدّيني في الدول الإفريقية. أمّا مسلمو آسيا، فإنّهم يواجهون إشكالية التّواصل مع البوذية والهندوسية. ولهذا رأينا، مع الأسف الشّديد، حالات دموية في بعض البلدان يُمارس على الوجود الإسلامي. فلا يمكن الآن لهذا الوجود أن يستمرّ إلّا إذا كان هناك بالفعل استراتيجية التّعاون والتّواصل مع المكوّنات الدّينية الأخرى. أمّا مسلمي روسيا ودول البلقان، فإنّ إشكالية الدولة الوطنية مطروحة عندهم، وهذا ما يقوم به المجلس في مؤتمراته وندواته وأنشطته، أوّلًا التّأكيد على الولاء للأوطان لأنّ الولاء للأوطان لا يتعارض مع الولاء للدّين. تتقاسم المجتمعات المسلمة في هذه البلدان مع العالم الإسلامي قضية تجديد الخطاب الدّيني، فالمسلمون في هذه المجتمعات بجاحة ماسة إلى عملية تجديد الخطاب الدّيني، والبحث عن آليات جديدة لاستنباط الأحكام الفقهية، حتّى تتناسب مع الواقع الّذي تعيشه هذه المجتمعات كأقليات دينية في مجتمعات غير إسلامية. نحن بحاجة إلى فقهاء جُدد متمكنين من العلوم الشّرعية والنقلية، ومن فهم الواقع وإدراكه وفهم الواقع الجيوسياسي أنّه لا يمكن إصدار أحكام فقهية دون مراعاة الظروف الّتي تعيشها هذه المجتمعات المسلمة، ولا يمكن إصدار أحكام دون النّظر في المآل والمقاصد. ويبقى من الآليات مساعدة أبناء المجتمعات المسلمة من أجل أوّلًا الحفاظ على هُويتهم، والاعتزاز بشخصيتهم وحضارتهم وتاريخهم، والعمل على تذليل الصعاب بينهم وبين الآخرين، وعلى تذويب جليد الجهل وتجاهل الآخر. ويعمل المجلس من خلال أنشطته على وضع منظومة تعليمية وتربوية، يساهم من خلالها ومن خلال المدارس والمعاهد الإسلامية في هذه المجتمعات في صناعة شباب مسلم ليس له عقدة الانتماء الدّيني والوطني، وهو صناعة الشّخصية الوطنية القادرة أن تمثّل الإسلام ومجتمعاتها وتدافع عن بلدها الّذي تعيش فيه. إلى جانب اهتمامه بالإعلام، خاصة الإعلام الذكي في زمن الأوبئة والكوارث، لأجل إيصال المعلومة الدّينية للمسلمين أولًا، وإيصال مواقف المسلمين والإسلام لغير المسلمين في القضايا والنّوازل الّتي تمرّ بها البشرية بسبب هذا الوباء الفتّاك الّذي أذهب أرواح النّاس، بالإضافة إلى الاهتمام بقضية المرأة والشباب والطفولة. كما يسعى المجلس إلى إيجاد أرضية تنسيق بينه وبين المؤسسات الإسلامية المماثلة، ومع المؤسسات الأخرى غير الدينية الّتي تجتمع مع المجلس في الأهداف وفي نبل أهدافها. ما هي التحديات الّتي تواجه المجتمعات المسلمة في العالم؟ في القارة الأوروبية والأمريكية، خصوصًا شمال الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا ونيوزيلندا وأستراليا، القاسم المشترك هو أنّ الوجود الإسلامي يعيش في حضارة غربية مادية قوية ممتازة، توجد هناك إشكالية الاندماج، لأنّ الجيل الأوّل لم يُطلَب منه الاندماج، بل طُلب منه البناء والتّشييد والمساهمة في تشييد البلاد، لكن الجيل الثاني والثالث والرابع في بعض البلدان مثل فرنسا، طُلب من أبناء الجاليات أو المجتمعات أو الأقليات أن يقوموا بدور فعّال في تمثيل البلد سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وبالتالي كانت إشكالية الاندماج من أكبر الإشكاليات المطروحة خصوصًا في الثمانينيات قبل نهاية القرن العشرين، حيث ظهرت إشكالية الحجاب في فرنسا، وقضية سلمان رشدي وفتواه، وقضية حرب البوسنة كيف يمكن أن تكون حرب داخل الجسم الأوروبي بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك مسألة الإرهاب في بلدنا الشقيق الجزائر كان له انعكاسات مباشرة على الوجود الإسلامي وعلى طبيعة العلاقة السياسية والرأي العام الفرنسي عامة وبين الوجود الإسلامي. فهذا التأثير والتأثّر خلق حالة من عدم الثقة سواء داخل المُكوِّن الإسلامي أنّه لا يثق في الآخر، أو الثاني لا يثق في المكوّن الإسلامي، فكان لزامًا على المؤسسات الدّينية أن تقوم بدور كبير وهام في تأصيل مفاهيم المواطنة والمشاركة وأن تجيب على السؤال الأهم: هل يتناقض انتمائي للدّين مع مقتضيات المواطنة؟ ثمّ ظهرت حركات العنصرية والإسلاموفوبيا والعداء للأديان عامة والعداء للسامية. لذا يُطلب ويُفرَض على المؤسسات الإسلامية دور كبير في ممارسة ومواجهة كلّ هذه التّحديات، من خلال أوّلًا عمل تنسيقي بين هذه المؤسسات الإسلامية فيما بينها، ثانيًا الانفتاح أكثر على المحيط الاجتماعي، ثالثًا التّعاون مع حكومات الدول، ورابعًا الحوار الدّيني الإسلامي المسيحي واليهودي، ثمّ الانخراط في عملية الحوار بين الحضارات. ما سبل تحقيق الأمن الفكري والروحي والثقافي لهذه المجتمعات لحمايتها من التطرف والغلوّ؟ تحقيق الأمن الفكري والروحي أوّلًا يبدأ أساسًا بمراجعة تراثنا الفقهي، أن نفرّق بين الدّين وبين التديُّن، بين الدّين من حيث قدسية مصدره أي الوحي: القرآن وصحيح السُّنّة، وبين التديُّن الّذي هو مجموعة الأحكام والأعمال والتطبيقات الّتي طبّقها ونفّذها وعملها الفقهاء على حسب اختلاف ظروف الزّمان والمكان والحال. أوّلًا، التراث الفقهي هو نتاج علمي على الرأس والعين من أئمتنا وسادتنا العلماء، وأنّه قد يكون صالحا لزمانه ومكانه، وهذا لا يعني صلاحيته لكلّ زمان ومكان، لكن الدّين وقدسية الدّين من حيث المصدر هذا مقدَّس، وهو ما يسمّى عندنا بالأحكام القطعية المقدّسة، علينا أن نفرّق بين الدّين والتديّن. ثانيًا أن نرفع القدسية عن التراث الفقهي. ثالثًا أن نعمل على صناعة خطاب ديني جديد ومتجدّد، يؤمن بأنّ لكلّ مرحلة ولكلّ نازلة فقهها وخطابها، وقد يختلف هذا الخطاب أو هذا الفقه أو هذا الحكم من دار إلى دار، ومن بلد إلى بلد، ومن زمان إلى زمان آخر. فتحقيق الأمن الفكري يبدأ أوّلًا بصناعة هذا الخطاب الدّيني المعتدل والمتّزن، والّذي لا يؤمن بالتشنّج ولا بالركون إلى التاريخ دون تمحيص، والّذي يؤمن أنّنا في حركة الإنسان في علاقته بين الفكر والواقع أنّه يمكن أن ينتج فكرًا معتدلًا، كما أنّه يمكن أن يُنتج فكرًا شاذًا ومتطرفًا. رابعًا العمل على إزالة هيمنة جماعات الإسلام السياسي الّتي تؤمن بالعمل المسلّح وتؤمن بالعمل السياسي المتديّن وغيره. خامسًا العمل على إيجاد مرجعيات دينية معتدلة في هذه المجتمعات، والعمل على إرجاع ثقة الشباب في العلماء وفي المؤسسات العلمائية. كيف يرى المجلس تصحيح الصورة النمطية عن الإسلام والمجتمعات المسلمة لدى الآخر؟ قام المجلس بالعمل في اتجاهين، أوّلًا تصحيح الصورة في كتب المناهج الدّراسية الغربية، وهو تواصل مستمر مع دور النّشر في هذه الكتب والعمل في 2020-2021 على إصدار الكتاب الأبيض الّذي سوف يحاول رسم كلّ المغالطات والأفكار الخاطئة عن الإسلام الموجودة في الكتب المدرسية في هذه الدول. أمّا تصحيح الصورة في الإعلام، فقمنا بعدّة خطوات في هذا الموضوع، سواء كان الرصد أو كان موضوع ضرورة إيجاد منهاج تكويني، ووُجِد منهاج تكويني للإعلاميين قامت بإنتاجه منظمة الإيسيسكو قبل ثماني سنوات، وهو منهاج يمكن استعماله والاعتماد عليه من أجل تكوين الإعلاميين لتصحيح الصورة النمطية عن الإسلام والمسلمين. وثالثًا الشقّ القانوني، ولا يمكن اليوم أنّه بحجّة ما يسمّى “حرية الرأي والتعبير والصحافة” يحقّ للإنسان كيفما كان بإشاعة الإشاعات الكاذبة والمغالطات والأكاذيب، إن كان ذلك على وسائل التّواصل الاجتماعي (فيسبوك، واتساب وغيرها) أو كان ذلك في الإعلام، وهنا المشرّع القانوني واضح في هذا الباب، وطالبنا في مؤتمر أبوظبي في سنة 2017 “إعلان أبوظبي” تجريم الإرهاب الإلكتروني، ودعوة الأممالمتحدة إلى إصدار معاهدة دولية ملزمة للدول تعاقب الإرهاب الإلكتروني واستغلال الفضاء الإلكتروني من أجل تمرير خطاب العداوة والكراهية والتطرف.