لا شيء يستطيع توصيف العلاقات الفرنسية المغربية حاليا أكثر من كلمة الجمود، إذ يشهد البلدان أزمة صامتة لكنها لم تعد خافية على أحد، حتى مع تفضيل سلطات الطرفين عدم الحديث عنها بشكل مباشر في ظل وجود مؤشرات تباعد كثيرة تصل أحيانا درجة الصدام. منذ اندلاع أزمة "بيغاسوس"، تشهد العلاقات بين الرباطوباريس أزمة تتجلى في عدم تبادل الزيارات بين مسؤولي البلدين، حيث لم يتوجه أي وزير فرنسي إلى الرباط لشرح أجندة فرنسا خلال رئاستها الحالية للاتحاد الأوروبي، أي تقديم المشاريع الخاصة بالمغرب. ومنذ إعادة انتخابه لم يجر بين الرئيس ماكرون والعاهل المغربي الملك محمد السادس أي لقاء رسمي أو خاص معلن، حتى أثناء زيارة خاصة قام بها الملك إلى فرنسا في جوان الماضي ودامت لأسابيع. ومن بين مظاهر التوتر، قرار فرنسا خفض التأشيرات للمواطنين المغاربة، إذ تفيد تقارير بأن 70 في المائة من طلبات التأشيرات التي يتقدم بها مغاربة يتم رفضها في وضع ويثير قلق شرائح واسعة من المغاربة تشكل فرنسا مقصدا أساسيا في الخارج بالنسبة إليهم. بالمقابل تكتفي الجهات الرسمية الفرنسية في تعليقها على هذا الموضوع بالإشارة إلى الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في سبتمبر الماضي، بتشديد حصول مواطني المغرب والجزائر وتونس على تأشيرات الدخول إلى فرنسا، لكن الموضوع بات يأخذ طابعا أكثر حساسية مع المغرب، حيث يتحدث برلمانيون وإعلاميون - بحسب تقارير إعلامية- عن رسوم تأخذها القنصليات من مقدمي طلبات تأشيرة مرفوضة، واتساع رفض طلبات التأشيرات ليشمل فئات من أصحاب الأعمال والوفود التي تشارك في مؤتمرات مهنية. وضمن الفئات الأكثر تذمرا من إجراءات القنصليات الفرنسية، وزراء ونواب سابقون، يوجهون انتقادات لحكومتهم الحالية بسبب صمتها على ما يرون بأنها إجراءات تنطوي على "إهانة للمغاربة". وقبل مشكلة التأشيرات، كانت شرارة الأزمة قد بدأت تتطاير مع ملف آخر يكتسي حساسية خاصة وقد طفا منذ أكثر من سنتين على السطح في العلاقات الفرنسية المغربية، ويتعلق بتقارير نشرت حول استخدام برنامج بيغاسوس الإسرائيلي للتجسس على شخصيات فرنسية تشمل الرئيس الفرنسي نفسه وأعضاء في حكومته لحساب الاستخبارات المغربية. وبالإضافة إلى كل ذلك، يلعب ملف الصحراء الغربية دورا محوريا في برود العلاقات إن لم يكن الأهم، والبرود هو الصفة التي تطبع أيضا تعامل باريس مع هذا الملف، حيث يميل عدد من المراقبين بحسب تقارير إعلامية، إلى رصد مظاهر برود فرنسي إزاء خطوة المغرب بتوقيع الاتفاق الثلاثي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي والولاياتالمتحدة في أوت 2020، وهو برود يمكن فهمه في سياق تداعيات اعتراف الولاياتالمتحدة بسيادة المغرب المزعومة على الصحراء الغربية، إذ كانت الرباط تنتظر من حليفتها التاريخية دعما في إحداث تحول مشابه في الموقف الأوروبي من ملف الصحراء الغربية. ولم تبد باريس أي إشارات تجاوب مع ما تنتظره المملكة المغربية، في الوقت الذي ظهرت تطورات في مواقف شركاء أوروبيين كإسبانيا إزاء هذا الملف، وفي بداية السنة الحالية، خصص البرلمان الفرنسي جلسة مناقشة لموضوع "حصيلة تحركات فرنسا من أجل احترام القانون الدولي: حالة الصحراء الغربية"، الجلسة تمت بدعوة من الفريق النيابي لليسار وجرت بحضور ممثلين عن جبهة البوليساريو. وخلال الجلسة أكد جون بابتيست لموين، كاتب الدولة الفرنسي في السياحة والفرنسيين وراء البحار والفرانكفونية، أن بلاده تدعو إلى حل سياسي توافقي بين أطراف النزاع، يستند إلى مقررات الأممالمتحدة وقواعد القانون الدولي. وشدد المسؤول الفرنسي على تقييد السياسة الأوروبية بمقررات محكمة الدول الأوروبية فيما يتصل بعدم سريان اتفاقيات الشراكة المغربية الأوروبية على الصحراء الغربية. ولم يتطرق المسؤول الفرنسي عن دعم بلاده التقليدي في مجلس الأمن الدولي لمقترح المغرب بإقامة حكم ذاتي موسع في الصحراء الغربية، وهي المواقف التي أثارت حفيظة المغرب. ففي آخر خطاب لملك المغرب، أول أمس، والذي جاء قريبا من حيث الزمان للزيارة المرتقبة للرئيس الفرنسي ماكرون إلى الجزائر، دعا محمد السادس بعض الدول التي ترتبط مع المغرب بشراكات لتوضيح موقفها من قضية الصحراء الغربية، وقال العاهل المغربي في خطابه إنه ينتظر من بعض الدول التي تتبنى مواقف غير واضحة بخصوص الصحراء الغربية، أن توضح مواقفها وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل في رسالة واضحة لفرنسا. وثمة ملف ثان على صلة بتداعيات الاتفاق الثلاثي المغربي الإسرائيلي الأمريكي، فمنذ توقيعه تعمقت الشراكة الاستراتيجية والأمنية بين المغرب وكل من دولة الاحتلال الإسرائيلي والولاياتالمتحدة، عبر اتفاقيات استراتيجية ومناورات عسكرية مشتركة واقتناء المغرب لمنتوجات السلاح الأمريكي والإسرائيلي، وصولا إلى تطوير صناعات عسكرية مشتركة إسرائيلية مغربية وهو اتجاه يصب في بناء تحالف أمني واستراتيجي جديد، في غياب فرنسا التي ترفض أن تنصاع للمطالب المغربية خاصة في ملف مرهون بعدة معطيات جيوسياسية مرتبطة بمنطقة ككل تأثير المخزن ضئيل فيها، خاصة وأن هذه المنطقة تعرف تغيرات عميقة تجعل من باريس تدرس كل خطوة تخطوها، لأن وضعها المنطقة وحساباتها تختلف عن باقي الدول التي انتزع منهم النظام المغربي مواقف لصالحه نظير مساومات أو تنازلات خطيرة. ولعل المغامرة التي أقبل عليها رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز وما خلّفته من تفاعلات، يجعل الإليزي يحسب ألف حساب لأي موقف يتخذه غير موقفه التقليدي من الصحراء الغربية.