أمطار أول أمس على قطاع غزة بقدر ما كانت مفرحة للأطفال الذين لم يرتووا بالماء وغابت عنهم تفاصيل استخدام "المية" منذ نحو أربعين يوما، فبالكاد يجدونها في المراحيض، كانت مصدر شقاء للأسر في الخيام ومراكز اللجوء. أم عبد الله تنام في خيمة بعدما جاءت من مستشفى الشفاء إلى مستشفى ناصر في خانيونس لتسكن في خيمة مع أسرتها، تفترش أكياس الدقيق الفارغة بعدما صنعت منها سجادا لعله يقيها برد الأرض. وأضافت أم عبد الله ذات 45 عاما ل"الخبر" أن أولادها مصابون بالنزلة المعوية والبرد بسبب التلوث والمياه الملوثة وقلة الطعام وانعدام التدفئة والملابس القليلة على مدار الأيام الماضية منذ خروجها من منزلها الذي تعرض للقصف، وزاد همهم مع الأمطار التي اقتحمت الخيمة، فلجأت إلى أكياس البلاستيك لتغطية الخيمة وما تبقى من أمل في الحياة.
الموت البطيء
هنا تسير حياة الفلسطينيين في غزة خارج دائرة الموت المباشر تحت حمم القصف الدموي، حياة موت أخرى بطيئة، فيها أشكال غير مسبوقة من المعاناة والعذاب والهوان لا تقل عن ألم الموت الذي يبث رائحته في كل مكان مع رائحة البارود وبقايا الصواريخ ورماد القنابل الممزوجة بالخوف في كل الاتجاهات والأوقات. المستشفيات تحولت إلى سبب للموت بدلا من أن تكون سببا للحياة والنجاة، الموت الذي يهدد الجميع ويحول الليل من سكينة إلى خوف وقلق، فقد يكون بيتك الهدف القادم أو بيت جارك أو يتم استهداف عابر أمام بيتك فتنهار عليك الجدران بلا مقدمات. يقول مراد العابد بابتسامة مسكونة بالقهر: "إذا سمعت صوت القصف فأنت على قيد الحياة"، ومن المعلوم أن لهيب القصف يصل قبل الصوت. العابد وهو من سكان شرق خانيونس، المنطقة المحاذية للحدود، اضطر إلى الانتقال مع عائلته إلى بيت أقاربهم وسط المدينة بحثا عن النجاة، يواصل حديثه قائلا إنه لم ير خلال الحروب قصفا مثل الأحزمة النارية التي يقوم خلالها طيران الاحتلال بإلقاء مئات الصواريخ على شريط ضيق وفي وقت قصير مستهدفا الأنفاق، من خلال عملية ارتجاج باطن الأرض، أو بهدف تعبيد الطريق أمام الدبابات. ويستمر العابد في حديثه مع "الخبر" وهو يصف الحياة مع هذا القصف أو القصف المنتظر الذي يأتي بلا وقت، فلا نوم مع هذا الخوف، خاصة عندما ينظر إلى عينيك الأطفال بحثا عن الأمان أو إجابة، في الوقت الذي تعيش أنت الرعب الذي لا تستطيع بعض الكلمات إخفاءه عن عيون الأطفال شديدة الترقب والتركيز.
النزوح.. المأساة
المواطنون خلال الحرب فئات، هناك من بقي في بيته لاسيما في المناطق الوسطى والجنوب في رفح وخانيونس، وهؤلاء غالبا ما استقبلوا نازحين من الأقارب من الدرجة الأولى، الذين هجروا المناطق الحدودية أو شمال القطاع ومدينة غزة أو من تعرضت بيوتهم للقصف أو بيوت جيرانهم، فلجأ الابن والبنت إلى أبيهم مع أسرهم أو العكس، وتحول البيت الذي يضم أسرة صغيرة إلى بيت يضم أسرا متعددة. يقول محمد حامد: "استقبلنا في البيت أختي وأسرتها من 8 أفراد، وعمتي التي تسكن في بيت لاهيا مع اثنين من أبنائها مع أسرهم والأطفال، وخالتي التي تقطن منطقة حدودية خطرة، وأصبح البيت يضم من 7 أفراد إلى 37 فردا". ويتابع محمد في حديث غامر بأنه تعطل عن العمل وتحول إلى عاطل لا يتلقى أجرا، المياه تأتي كل أسبوع مرة ولوقت قصير وفي ظل عدم وجود كهرباء لا يمكن تشغيل محرك ضح المياه، وتكون الحصيلة من انتظار الماء ما يكفي ليوم واحد من الاستخدام المنزلي والمطبخ، أما ماء الشرب فتحصل عليه بشق الأنفس بعد طابور طويل قد يزيد على 3 ساعات من أجل 10 لتر من المياه الصالحة للشرب. أما طارق يحيى الذي كلفته العائلة بشحن البطاريات الصغيرة والهواتف النقالة فيقول ل"الخبر" إن مهمة الحصول على الكهرباء تتطلب الذهاب إلى عيادات الرعاية الأولوية أو مدارس الأممالمتحدة أو بعض المساجد التي فيها ألواح الطاقة الشمسية للوقوف في طابور الانتظار ثم حراسة البطارية والهواتف لضمان شحنها، وهي رحلة تمتد لنحو 3 ساعات في أحسن الأحوال. النوع الثاني من النزوح يكون إلى المدارس وتأخذ كل أسرة فصلا دراسيا يصبح هو البيت والمطبخ ومكان النوم ويصبح لك في الفصل الثاني جيران جدد ولكل جيران رحلة مختلفة، جيران لا تختارهم يجمعكم الانتظار والخوف وتفاصيل يومية شاقة.
كل شيء لا يصلح للحياة
تقول الطفلة منار التي نزحت مع أسرتها من حي تل الهوا إلى مدرسة في خانيونس جنوب القطاع: "في مدرسة الإيواء كل شيء لا يصلح للحياة، دورات المياه والمراحيض بالطابور ولا يوجد ماء صالح للشرب، لم نستحم منذ 20 يوما، القمل انتشر بين الأطفال، الحمامات "مقرفة" ولا يوجد فيها ماء والرائحة شنيعة". أما الطفلة نور بصل فتروي تفاصيل مرعبة عن قصف منزل خالها ومشاهدتها أشلاء خالها وزوجته وأطفالهم. كم هو مرعب ما صنعته الحرب بذاكرة هؤلاء الأطفال، حيث يتجمعون في ساحات المدرسة للعب وأحيانا يصنعون حكايتهم الخاصة حول النزوح والحرب وأسماء من فقدوهم. يقول أبو رامي، صاحب محل في حي الأمل غرب خانيونس، إن ما لديه من سلع تموينية قد نفد وإن الناس يطرقون بابه معهم نقود ولكن ليس لديه ما يقدمه لهم، ينتظر دخول سلع جديدة في ظل هذا الحصار الخانق الذي طال كل شيء. ويتابع: "المساعدات تتكدس على معبر رفح بلا جدوى بانتظار قرار إسرائيل التي تقول إنها تريد الرهائن "الأسرى لدى المقاومة"، لكنها جعلت 2 مليون غزي رهائن لديها، تمنع الماء والكهرباء والوقود والدواء، والمضحك أن 50 دولة عربية وإسلامية قررت كسر الحصار على الورق وفي البيانات فقط". الشاب محمد لبيب له معاناة مزدوجة بعدما انتقل من بيته في مخيم الشاطئ إلى مدرسة حكومية تحت إشراف "الأونروا"، المعاناة الأولى مع جدته المصابة بجلطة في الدماغ، لا تستطيع الحركة وتحتاج رعاية خاصة وإجراء كشف طبي دوري لا يمكن في هذه الظروف، المحنة الثانية أوجاع أمه المصابة بمرضي الضغط والسكر وهي بحاجة إلى دواء وغذاء خاص وهذا غير متوافر. يواصل محمد الشاب العشريني حديثه ل"الخبر": "تركنا خلفنا كل شيء ومشينا نحمل مرضانا وأطفالنا نحو 15 كلم من أمام الدبابات وجيش الاحتلال على شارع صلاح الدين، نتنقل بين كمائن الموت على الطريق أو في المدرسة، كل شيء يذكرنا بالموت، من معنا من مرضى أو القصف المفاجئ أو تحليق الطائرات". أما الحاجة أم ياسر من حي الدرج بمدينة غزة التي اضطرت للانتقال إلى خانيونس فتقول: "أنا لا أريد من الحياة إلا أن أطمئن على ابنتي وزوجها وحفيدي الصغير الذين ما زالوا في مدينة غزة وفقدنا الاتصال بهم". في الأماكن الجديدة بلا ماء صالح للشرب وبأغطية من التبرعات وما يشبه الفراش يصنع الاكتظاظ الدفء والخوف من قصف يجمع الأجساد في أشلاء، الكل ينام تعبا أو يحاول أن ينام دون أن يغيب عنهم هدير الطائرات والقصف الجوي الذي لم يغادر أجواء قطاع غزة على مدار الدقيقة.