"الشروق" تزور مدرسة للنازحين بغزة وتروي المعاناة مع بداية الهدنة الإنسانية الثانية لمدة ثلاثة أيام، وضعت الحرب أوزارها مؤقتا لمن بقيت بيوتهم في أطراف غزة المدمرة، فقرروا مغادرة مدارس الإيواء من أجل استنشاق عطر بيوتهم التي لم تصلها قذائف وصواريخ العدوان رغم رائحة البارود وبراميل المتفجرات، كما حاولت البيوت أن تخالف طبيعتها المادية لتفرح باحتضانهم أحياء ولو مؤقتا. بين البيوت المدمرة شرق حي الشجاعية والزيتون تفقد المواطنون ممن أتعبتهم مدارس الإيواء بقايا ممتلكاتهم وذكرياتهم، ولا أمنية لهم سوى العودة إلى البيت رغم الدمار في المحيط، فلا كرامة للحياة بتفاصيلها الصغيرة والكثيرة إلا في البيت، فمن ضاقت عليه الدنيا لا يسعه إلا بيته. مشهد يبدو في غاية الحزن والألم إلا أنه يعتبر مثاليا لمن فقد بيته ولم يبق له إلا فصلدراسي يعيش فيه مع أسرته أو مع جيران جدد اشتركوا جميعهم في هم فقدان البيت، لاحكاية لهم في ليالي السهر الاجبارية سوى الماضي ومخاوف المستقبل، حكايتهم تتشابه فيالتفاصيل وتختلف في المسميات والأرقام. العائلات التي أجبرتهم الحرب على البقاء في مدارس الأممالمتحدة وتقدر أعدادهم حسبالاحصائيات الرسمية بعشرة آلاف أسرة بلا بيت ولا مقتنيات، إلا ما وصل من تبرعات بعضالأفرشة والأغطية ووجبات الطعام اليومية التي ملّ منها النازحون الجدد، فقرروا شراءأنابيب غاز صغيرة لطهو طعامهم بمذاق تعبهم لعلهم يتغلبون على سادية الزمن الذي يذكرهمبما مضى ويرعبهم من قسوة الأيام القادمة بدون حائط أو قرار. عائلة "عمارة" لجأت إلى مدرسة مملكة البحرين غرب مدينة غزة التابعة لوكالة غوثوتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" التي تضم أكثر من ثلاثة آلاف نازح، لكن ضيقالمكان أجبرها على الاستقرار في مرحاض، يصحو الأب وأطفاله في المرحاض. الزوجة الصابرة لا تطمح إلا لحياة عادية بسيطة، فالحياة بجوار المراحيض أقرب لعقوبة،والتفاصيل متروكة للقارئ، فيما يرى الزوج أنه مضطر للحياة داخل مرحاض من أجل الحفاظعلى أرواح أطفاله وستر خصوصية زوجته والأسرة. ويقول "عمارة" القادم من شرق غزة المدمرة هربا من الموت نحو المعاناة، لا أحد يفتقدناولا اهتمام بنا وبحالنا. أما عائلة أبو محمد وأشقاؤه وشقيقته تركوا بيوتهم الواسعة في الشجاعية تحت لهيبالقذائف الإسرائيلية وفروا صباحا نحو مدرسة الأونروا ليضيق بهم الحال من عدة شققوعشرات الغرف إلى مأوى من فصل واحد أصبح بداية الحياة ونهايتها بالنسبة لهم منذ ثلاثةأسابيع. وعن ما تيسر من طعام تقول "هناء" زوجة أبو محمد، تُقدم لنا معلبات من اللحم والجبنةوالخبز وعلب العصير، وجبات باردة تكررت لدرجة أفقدتهم شهوة الطعام، ومست الأطفال فيصحتهم وأصابتهم بأمراض وأعياء دون رعاية صحية وطبية. في المدرسة إذا كانت عائلتك كبيرة تتمتع ببعض الخصوصية في فصل مغلق يستر النساء،فيما تضطر الأسر الصغيرة للتجمع في فصل واحد تجلس داخله النساء، وعندما تفر النساءمن حر المنزل الفصل الجديد يجلسن بملابس الصلاة في الساحات وخلف الفصول. في رحلة النزوح الجديدة كل شيء يتم من خلال طابور الحمام والمرحاض وتعبئة المياهواستلام وجبات الطعام. الوجوه هنا مرهقة ومتعبة تعلوها علامة استفهام وملامح الحيرة وسط الحر الشديد الذييجعل حزنهم أكثر مرارة. آلاف الأسر لا مفر لها من البقاء في المدارس حتى تلتفت لهم السياسة ونتائج اجتماعاتالدول الكبيرة والصغيرة، هنا المعذبون في وادي المعاناة ينظر لهم صقور وحمائم السياسةكملفات وأرقام يقتلها الوقت والمماطلة وانتظار الاعمار.