يحتضن رواق "عسلة" معرضا للفنان التشكيلي شعبان جودر، تفنّن عبره في توظيف الألوان والخطوط التي كادت تتجاوز مساحات اللوحات لتظهر وكأنّها امتداد لآفاق أرحب من الكون، حيث تجمع أعمال هذا الفنان الحالمة بين التجريدي والانطباعي والتعبيري، وتحمل ثورة إنسانية ناعمة تحاول أن تندد بأوضاع مخالفة للفطرة والجمال. تتوالى اللوحات الثلاثون ذات الظلال والألوان الداكنة لتغوص في عوالم من الميتافيزيقا وفي أحيان أخرى تحاول هذه التشاكيل طرح مواضيع إنسانية تحمل الكثير من الشجن والغوص في عوالم داخلية تتّجه دوما نحو العمق الأزرق المعبأ بالأسرار والأفكار والأشياء والقطع الغريبة. ويلتزم هذا الفنان في معرضه بالأسلوب التجريدي فهو لغته الفنية المعبّرة عن أفكاره وتأمّلاته الهادئة التي تقرأ الأحوال في صمت، كما أخذت اللوحات العملاقة (شبه جداريات) حيزا مهما في المعرض، فقد كان لها نصيب الأسد وقف أمامها الجمهور أكثر من غيرها يحاول جاهدا فك طلاسمها وقراءة ألوانها المتداخلة بتناغم وحوار داخلي صامت مرتبط بلغة شاعرية عصماء، يطول التأمّل لتقرأ الصور والمعاني بذاتية ينفجر منها الإحساس الفياض تصوّر حركة الأرض وسكون السماء. تطغى على هذه الجداريات التي تحمل عنوان "الصعود" ألوان الأزرق القاتم والأسود والرمادي والبرتقالي المتدرج، تسبح فيها القطع المتناثرة في قلب تيار جارف، بينما يقف في الركن طيف إنسان وكأنّه يتفرّج على مسار العالم والحياة تطوف في زمن متسارع لا يرحم مثله في ذلك مثل التيار المائي الذي يهزّ المحيطات وكأنّ الفنان يشبّه هنا الحياة بالدوامة. جدارية أخرى، ألوانها رفيعة كالخيوط مبعثرة في كلّ الاتجاهات، مشكلّة فوضى خلاقة يبدو محيطها كأعماق البحار الذي لا يظهر قرارها ومع ذلك تظهر هذه الألوان وكأنّها تنبعث من العمق نحو السطح الأكثر إشراقا؛ بينما تبقى أشياء أخرى مستقرة في قرار المحيط أغلبها قطع معدنية وأدوات منزلية وغيرها وتبدو كبقايا تخزنها الذاكرة في العمق. يلتزم الفنان بالبحر في جدارية أخرى، لذلك يعطي الحيّز كله تقريبا للون الأزرق ويكتب في وسطها بخط أزرق رفيع عبارة "ألم ترى أن الله يسجد له ما في السموات والأرض" يصوّر فيها عينات من ملكوت الخالق الذي يحوي كائنات تشهد بعظمته، وبالمقابل نصبت جدارية أخرى بخلفية بنفسجية مضاءة بالأنوار تنتشر فيها الأشكال ذات التموّجات المتناسقة تتفرّع منها أشكال ذات لون برتقالي متدرّج تشبه أعشاب البحر. في الناحية الأخرى، من المعرض تظهر لوحات أخرى وعنوانها "حالات" هي بحجم عادي، الكثير منها في الأسلوب التجريدي، بينما الأخرى ذات أسلوب انطباعي وتعبيري، خاصة فيما يتعلّق بالبورتريهات منها بورتري امرأة مغمضة العينين تتقاطر من وجهها الألوان وتتناثر من حولها الأشكال الهندسية العشواء إذ أنّ هذا المخلوق الرقيق لا يزال في محيطه المغلق والمدجّج بالأشياء الخشنة، في لوحة مجاورة يظهر عامل قبالة فوضى حطام يستعين بالسلالم يبدو رجل إطفاء. تتجلى المدرسة الانطباعية في باقة ورد بمزهرية طينية تقليدية بألوانها الفاتحة، وتتجلى أيضا في السيدة العاصمية صاحبة "الكراكو" المنغمسة في وسط تجريدي تصنعه أشكال تبدو كالأحجار التي تشكّل بتماسكها جدرانا، ناهيك عن المرأة الإفريقية المتأملة لمحيطها المكسو بالعتمة وكأنها تتحسّر على حال قارتها الأم التي لا تزال تعيش الفقر والانقسام والاستغلال الفظيع لأبنائها الأحرار. يحاول هذا الفنان أن يجعل من لوحاته فضاء للحركة الدائمة من خلال الألوان والأشكال والمعاني والأفكار، التي تثير قضايا الراهن الذي طغت عليه الحركية الآلية للأشياء، مما سلب الحياة معنى الجمال والقيم والأصالة والأحاسيس الإنسانية التي أصبحت على ما يبدو ضحية حرب العصرنة والمدنية. للتذكير، فإنّ الفنان شعبان جودر يمثل عينة من الجيل الجديد في مجال الفنون التشكيلية من مواليد سنة 1985 وهو خريج مدرسة الفنون الجميلة زاول دراسته بعدة معاهد منها مستغانم وعزازقة ووهران وقد سبق له وأن قدم العديد من المعارض عبر الولايات.