يستضيف رواق "عائشة حداد" إلى غاية الرابع أفريل القادم، فعاليات معرض "مترادفان" للثنائي التشكيلي بوسعيد مزيان وحياة مقيدش بوسعيد، بحضور مميّز للأفكار والرؤى الفلسفية المترجمة بإخلاص على اللوحات التي كانت تحيل الزائر على عالم من التساؤل والتأمّل في مكنونات الحياة والوجود، ليعيد، بدوره ومن خلالها، رسم الصورة في وجدانه ومخيّلته. يتجوّل مزيان بين ثنايا الروح وإرهاصات الأنا ذهابا وإيابا، ليكتشف العمق في صميمه بالرغم من الوسائل التقنية المستعملة في عملية التنقيب، ليصل في الأخير إلى تساؤلات مشروعة يطرحها كائن حي يدعى الإنسان. تختفي مواضيع أمزيان، وتظهر من خلال الخطوط والألوان ومختلف التشاكيل الأخرى التي يكون فيها الأبيض والأسود هما سيدا اللوحة ضمن أسلوب راق يتجرّد من الأطر والأشكال والألوان، ليفتح المجال للسوداوية القاتمة، القادرة وحدها على إسماع صوت الأنين الكامن في اللاشعور واللاوعي، كما تنفجر، من جانب آخر، المشاعر الهائجة والمتمرّدة، متجاوزة حدود الكون والحياة. يفضّل الفنان المتألّق مزيان أن يترك مساحة لمخيلة الزائر، ليقرأ بحرية اللوحة، ويغوص بنفسه في أعماقها الغائرة التي تحمل صحيح المعاني. واختار التقنية المختلطة، واستعان بالقطع النحاسية المذهّبة (طلاء معدني)، كما هو شأن لوحات "أبواب الصمت" التي تتوسّطها الألواح الخشبية الممتدة، المزيّنة بالبصمة الذهبية، كذلك لوحة "المرأة" التي يضع الفنان الدوائر الذهبية على ثدييها؛ تكريما منه لأمومتها، ثم يضع في لوحة أخرى (الزوجة) الذهب كتاج على رأسها، ليواصل تكريمه للمرأة من خلال لوحات أخرى منها "الذاكرة" التي تسكن رأس امرأة؛ باعتبارها الأكثر ائتمانا على التراث والهوية. كان للرجل أيضا حضوره الملفت من خلال لوحة ضخمة حملت عنوان "على خطى أبي"، بها آثار أقدام من ذهب تسير في اتّجاه مسطّر نحو هدف تدركه، وهو دليل على الالتزام بمنهج الآباء والأجداد فيما يتعلّق بجانب الهوية والارتباط بالقيم المتوارثة. من جهتها، برعت الفنانة حياة في الخوض في تجليات الحياة البسيطة المنبعثة من عمق المعيش اليومي الموسوم بالتراث والهوية الأصيلة. واعتمدت إجمالا على الأسلوب نصف التجريدي، وحاولت بريشتها المطيعة أن تسحر العين بالخطوط والأشكال المتداخلة في تناغم تام ومعبّر، كما كان شأن لوحة "المترادفان"، التي ضمّت كلّ المعاني والأشكال التي تخدم المعنى نفسه؛ من خلال المربّعات والرموز الثقافية والزربية التقليدية والإضاءة الفاترة التي توحي بزمن ولّى، كان للثقافة الشعبية فيه مكانها اللائق في الممارسات اليومية، خاصة عند النساء. لوحة "مؤشرات" تعمّها العتمة الممزوجة بالحزن والأسى، تتراءى منها خطوط رفيعة عبارة عن رموز وحروف أمازيغية، وهي دعوة إلى ضرورة الاعتناء بهذا التراث الثقافي كي لا يندثر. وانتقلت الفنانة بعدها إلى تقنية الرسم على الزجاج، مجسّدة في لوحة "جريمة قتل"، واقع المرأة التي لاتزال تعاني. وفي لوحة مجاورة بعنوان "زوجان" بديا من خلال الأسلوب التجريدي ضبابيين متوازيين، لكلٍّ وجهه الذي يرى به العالم. لوحة "الهوية" مرصّعة بالحلي والألوان الصارخة التي توحي بجمال المرأة القبائلية وحرصها على ما تملك من زينة الفضة. كما عرضت الفنانة العديد من اللوحات التي كانت عبارة عن صحون من خزف مختلفة الأحجام والأشكال، بها تعابير أمازيغية راقية وبعض المنمنمات التي تعكس التكوين الأكاديمي الراقي للسيدة حياة. في "الصحن"، حرصت الفنانة على إبراز الموروث الأمازيغي بالخطوط والأشكال، تماما كتلك المنسوجة على الزرابي. وأغلب هذه الأعمال الخزفية ذات ألوان ترابية خاصة الأحمر الآجوري والبني والأصفر، وتشبه إلى حدّ بعيد المواعين الطينية التقليدية. ويبقى المعرض علامة على الرقي في التكوين؛ باعتبار كلا الفنانين متخرجا من المدرسة العليا للفنون الجميلة، كما يعكس البحث في توظيف الأساليب والتقنيات الفنية لخدمة التراث الوطني، وفي إثارة بعض المواضيع اللصيقة بحياة الناس. المعرض وقّعه رجل وامرأة، لكنه لم يسجل تناقضا بينهما، بل منتهى التوافق الذي يعكس الشراكة في الاهتمامات والأحلام والهواجس؛ باعتبارها واحدة عند بني البشر، لا فرق فيها بين جنس وآخر.