يبيّن كتاب "سرديات ثقافية.. من سياسات الهوية إلى سياسات الاختلاف"، لمؤلّفه الدكتور محمد بوعزة، أنّ طموح هذه الدراسة ينبثق من محاولة تجاوز الأفق البنيوي للسرد، أو بالأحرى توسيعه لينفتح على الأسئلة المعرفية والمرجعيات الثقافية لطبيعة السرد.. في إطار اهتمامه بصياغة تصوُّر السرديات الثقافية، لا يلغي المنجز النظري للسرديات البنيوية، خاصة ما يتعلَّق بمقولات تحليل النص السردي ذات الطبيعة الإجرائية. حيث تحتفظ بفاعليتها البنيات السردية، ورصد أساليب السرد، لكن يعيد تكييفها في أفق ثقافي، يتجاوز مستوى الوصف البنيوي نحو عملية التأويل، بالبحث في المرجعيات الثقافية المحدّدة لدينامية السرد وقوَّته الرمزية في تشفير العالم، واستنطاق سياسات التمثيل السردي، وباستحضار المرجعية الثقافية، فإنَّ السرد هو أكثر من مجرَّد مظهر لفظي للخطاب، إذ إنَّه "تشكيل عالم متخيَّل، تُحاك ضمنه استراتيجيات التمثيل، وصور الذات عن ماضيها وكينونتها.. وتندغم فيه أهواء وتحيزات وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات ونزوعات وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته، بقدر ما يصوغها الماضي بمتجلياته وخفاياه"، وهنا لابدَّ من بروز الهوية الذاتية التي تتشكَّل في مجازات السرد كما تؤكِّد - هيرمينوطيقا بول ريكور- وتكتسب الأمم هوياتها الجماعية عبر قوَّة السرد، "فالأمم مرويات وسرديات".. كما يوضِّح النقد الثقافي. وتشكَّلت في مرحلة الكولونيالية خلال النصف الأوَّل من القرن العشرين، هوية أكثر من "ثلاثة أرباع شعوب العالم" في إفريقيا وآسيا وكندا وأمريكا اللاتينية وأستراليا وجزر الكاريبي، بفضل "سرديات التحرّر الوطني"، إذ يمثِّل السرد إستراتيجية خطابية أساسية بالنسبة للذات في التمثيل، وصياغة هويتها عن طريق تأكيد اختلافاتها مع صور الآخر، اختلاف يأخذ أنماطاً متعدّدةً من العلاقات، شكل ديالكتيك السيِّد والعبد، وهندسة المركز والهامش في الحكاية الكولونيالية، وشكل السلطة والتابع في حكاية السلطة، وشكل الألفة (الأنا/المحلي) والغرابة (الآخر/الأجنبي) في الحكاية الحضارية. وفي مبحث السرد والسلطة، يستقصي المؤلِّف العمليات الخطابية المقترنة بالقوَّة على ممارسة السرد، خاصة في الوضع الذي تفرض فيه السلطة حالة الإسكات على المجتمع (الاعتقال، القمع، التحكم في وسائل الاتصال والإعلام..)، وفي مواجهة هذا الوضع يمثِّل السرد القوَّة الدافعة للكتابة، وكسر حالة الصمت. وتضمّ هذه العمليات امتلاك "الصوت" وشفرة التمثيل، ويحلِّل المؤلِّف في هذا المبحث عددا من الروايات، بينها رواية "دمية النار" لبشير مفتي، رواية "الساحة الشرفية" لعبد القادر الشاوي ورواية "كهوف هايدراهوداهوس" لسليم بركات، وفي هذه النماذج الروائية، يقع السرد في صميم النزاع على استعمالات الماضي، من أجل تسويغ الشرعية (إستراتيجية السلطة)، أو نزع الشرعية (إستراتيجية المقموع). في مبحث السرد وتمثيل الآخر، يكشف المؤلف محمد بوعزة الآثار الخطابية المقترنة بسياسات الغيرية والآخرية التي تُعاش في زمنية الاختلاف الثقافي، خاصة تلك التي سادت في نموذج الرواية الحضارية، حيث يخضع تمثيل الآخر من وجهة نظر الذات لمتطلبات النسق الحتمي- صراع الشرق والغرب، فيأخذ رواية "مصابيح مطفأة" لأحمد الكبيري، نموذجاً. وفي مبحث السرد والقوَّة، يوضِّح الكاتب أنَّ القوَّة على ممارسة السرد، ذات أهمية قصوى في بناء الذات وتشكيل ملامح الوعي الذاتي، وإعادة تملك القوَّة - قوَّة المعرفة- أي المعرفة بالذات والعالم في سياق محتدم بالصراع وعنف السلطة. وفي مبحث الهوية والسرد، يستقصي الناقد الإشكالات الاستاطيقية والابستيمولوجية التي تطرحها نصوص تراهن على الهجنة الأجناسية في بناء المتخيل السردي، فيأخذ رواية "ثلاثة وجوه لبغداد" لغالب هلسا، التي يمارس السرد فيها تفكيكاً مزدوجاً للهوية، تفكيك خطابي لهوية النص، وتفكيك أنطولوجي للذات، ونص "كتاب الأيام، أسفار لا تخشى الخيال" للروائي شعيب حليفي، إذ يجري خرق معيار النوع في عملية التفكيك المزدوج، الخطابي والأنطولوجي، حيث تتورَّط هويته النصية في تجاذبات الما بين، على حدود التوتر بين ميثاق الرحلة وغواية التخييل الروائ