يعرض أمين الزاوي روايته الأخيرة "قبل الحب بقليل"، وهو عمل أقرب إلى أن يوصف بأبجدية للعشق والسلطة، حيث يستدعي شخوصه من نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات عبر متتالية حكائية مميزة، تسائل أداء النخبة السياسية آنذاك. تمضي حكاية هابيل وسارة - وهما البطلان الرئيسان - في 256 ضمن الرواية الصادرة في نشر مشترك بين "الاختلاف" الجزائرية و"كلمة" التونسية و"ضفاف" اللبنانية، وهما يرصدان التغيرات السياسية والثقافية القاسية للبلاد عبر حكايتهما والحكايات المجاورة لها.هابيل الذي يجد نفسه بمحض الصدفة بائع كتب يقيم في مستودع (كاراج) عند البابا سليمان، يتحول تدريجيا إلى قارئ بعد أن يتأثر بمضيفه، في غضون ذلك يحكي حبه المبكر لهاجر أولا، ثم لسارة. يحكي البابا سليمان حبه للسيدة دانييل ديفا التي اختارت الوقوف إلى جانب الثورة الجزائرية، ويستغرق في قراءة رواية "الطاعون" لألبير كامو الذي "اختار أمه"، بينما يتكرر الحديث عن "جرذان الأفكار الجديدة" التي تنهش وهران وتغيّر وجهها. تبدو علاقة حب هابيل بسارة ضبابية، تتخللها تفاصيل كل منهما على حدة أكثر من تفاصيلهما معا، حيث تتزوج سارة بالجنرال سي سفيان، وهو عسكري ومجاهد سابق يحمل الكثير من الأسرار التي لا يفكر في تحريرها بعد أن يصيبه الزهايمر.يتداول أبطال الرواية حكاياتهم المحملة بالحب والهم السياسي والإنساني، فالبابا سليمان والجنرال سي سفيان ورغم مسارهما التاريخي المشترك، يفترقان؛ إذ تعلو مراتب سي سفيان، بينما يجد القارئ والمثقف سليمان نفسه حارس مستودع. يمثل المخرج هيتشكوك نموذجا للفنان والمثقف الذي يحمل مشروعا حقيقيا في جو غائم ومفلس، وعشية تغيرات إيديولوجية يعيشها المجتمع كله بظهور طبقة من المتديّنين الذين يرفضون هذا النموذج، في النهاية يُقتل الفنان على يد مجهولين. لا يقف الزاوي على حكاية واحدة؛ فهو يقترح دوامة حكايات بأصوات متعددة يستعيدها في كل مرة هابيل، بدءا من فتاة القرية سارة، التي تركب شاحنة تقلها بعيدا عن قريتها نحو وهران، إلى فتاة العم التي تستعيد حبيبها بعد فرار زوجها ليلة دخلتها، فيكون بديله، إلى ليلى التي تحب الفنان المهووس بهيتشكوك وتتزوجه، وتنجب له أطفالا، فيفر منها في سبيل فنه. هناك قتل حقيقي للأب في الرواية، وانتصار صارخ للأم، فكل أبطال الرواية تحدثوا بالإيجاب عن أمهاتهم وبحيادية، بل وبالسلب عن آبائهم. وشكّل بعض الآباء السلطة أحيانا، والأبناء المعارضة، بينما الأمهات صورة الوطن الجميلة؛ حيث يقول "هيتشكوك": "كلما حاولت أن أستعيد وجها لأبي لا أجده... الفراغ أبي". لا تخلو رواية الزاوي من رموز السلطة، بل ربما كان من أبرز ما بُنيت عليه هو السلطة، فالجنرال تماما كما الكرسي الذي التصق به والد الراوي (هابيل) رمزي السلطة. وحتى في سيقان الجنرال السبعة التي استقدمها من سبع دول رمزية لواقع السلطة في العالم العربي؛ حيث لا تنجو الأنظمة من تأثيرات الخارج، وبالضبط تأثيرات الدول السبع التي ذكرها. سارة التي تزوجها الجنرال، وهابيل وهيتشكوك ينتمون للمستقبل، بينما ينتمي رموز السلطة كسي سفيان ووالد هابيل نصف القديس والرئيس الذي مات (هواري بومدين) للتاريخ، لهذا فقد علا النصَّ سؤال دائم من هابيل وسارة عن وضعهما، وهما المنتميان إلى "جيل ضائع". يقيّم الجنرال في ذهن الرواي أكثر من الواقع؛ وكأنه رقيب ذاتي يحتجز حريته أحيانا، ويكون السرد حالة مقاومة في غرفة "فندق المهاجرين"، هذا الفندق الذي يعبّر عن الحالة الوجودية التي يعيشها المهاجرون الجزائريون، وعن التشظي الانتمائي؛ وكأنهم في حالة عبور أو معلقين. تتردد عبارات من قبيل: "كل شيطان ماضيه ملاك" أو "الشيطان جده ملاك" أو "الشيطان يخرج من ضلع ملاك"؛ وكأن الكاتب يريد أن يؤصل للشيطان الذي يسكن الإنسان. لا يكفّ الزاوي عن استعادة وهران التي حضرت بكثافة نوستالجية أحيانا، بشوارعها وطقوسها وحالاتها، بصباحاتها ومساءاتها ونصفيها اللذين يتداولان الليل والنهار، وبتناقضاتها الصارخة أيضا. تحضر أطياف أعمال أمين الزاوي السابقة مثل "عسل القيلولة" و"السماء الثامنة" و"حادي التيوس" وغيرها، لكن الأسلوب كان مختلفا؛ فقد انتقل بسلاسة من حكاية إلى أخرى، وجرّب التغيير بدون فوضى في الشكل والبناء.