رحل، أول أمس، الطاهر بن عيشة عن عمر ناهز العقد التاسع، تاركا وراءه إرثا ثقافيا وإعلاميا معتبرا، وأجيالا تكوّنت على يديه، وشربت منه صنعة الصحافة على أصولها، والتي ظلت تتذكّره دوما وتفتخر بأنّ المعلم الأوّل لها كان بن عيشة. وكان الراحل أيضا منقّبا ماهرا في دفاتر التاريخ، ومتجوّلا عارفا عبر أحياء المدن والعواصم العريقة ابتداء من الأندلس إلى غاية أقاصي آسيا الوسطى، ولاتزال هذه الرحلات مسجّلة في الذاكرة العربية، وتمثّل مرجعا أساسا."عمي الطاهر" - كما يسميه بعض تلاميذه من الإعلاميين - ظلّ وفيا لمبادئه دونما غلوّ، وبقي ذلك المشاكس ذا اللسان الحار الذي لا يسكت عن المنكر ولا تهمه في قولة الحق لومة لائم؛ لذلك فلت من إغراء البلاط، لينضم لعموم هذا الشعب الذي ألِف أن يكون مثقفوه في الصفوف الأمامية. مات بن عيشة كما يموت الحكماء بعيدا وفي هدوء بعدما لازمه المرض لسنوات، لكنّه ورغم جسمه النحيل ظلّ يحتفظ بصوته المدوّي، وبالتزامه بروحه الخفيفة وبعض مشاكساته. وكان المتصل به منا يجزم أنّه بأتم عافيته من فرط حيويته، وكان لا يتردّد ولا يتلعثم في الإجابة عن أي استفسار؛ أي أنه كان يدلي بدلوه في كل الشؤون العامة والخاصة، وغالبا ما كان يجادل بالتي هي أحسن وبالحجة الدامغة؛ مما يزرع أجواء من النقاش الفكري الراقي.وعلى إثر هذا الرحيل اتّصلت "المساء" ببعض الأسماء التي عرفت هذه القامة الكبيرة، وكانت هذه الانطباعات. سليمان جوادي: محظوظة تربة قمار أمام هذا المصاب الجلل، كتب الشاعر سليمان جوادي على صفحته على "الفيسبوك": "رحمة الله عليك أيّها الطاهر، الطاهر بن عائشة". وأضاف: ".. محظوظة هي تربة مدينة قمار؛ إذ تحتضن جثمانك بعد أن احتضنت منذ أشهر قليلة جثمان شيخ المؤرخين بلقاسم سعد الله.. تغمّدكما الله برحمته الواسعة وأسكنكما فسيح جناته". واسيني الأعرج: مات بن عيشة حرّا في هذا الإطار، كتب الروائي واسيني الأعرج على جداره بالفايسبوك، أنّ الوسط الجزائري فجع بخسارة كبيرة لشخصية استثنائية، وعلامة من طراز نادر، شكّل جزءا من خزّان الذاكرة الوطنية. وأضاف أنّ الراحل اهتمّ بالمخطوطات وبالمنجز الحضاري العربي الإسلامي، وسافر كثيرا عبر العالم من باكو إلى الأندلس إلى إفريقيا وغيرها. اهتم بالمخطوطات، وتابع في الصحراء الجزائرية، واعتبرها محنة وطنية، وأكثر من هذا، كان سريع البديهة ومثقفا حرا. وكتب: "ومات بن عيشة حرا، في بيته بين أولاده، رافضا كل ما يمس حريته كمثقف.. رحمك الله عمي الطاهر، الذي أجاب ساخرا، مسؤولا ثقيلا أراد أن يهينه باسم أمه، بالتركيز على كلمتي ابن عائشة، فأجابه بسرعة بديهته المعروفة: "اسمع يا سيدي، لا أستثقل اسم ابن عائشة، بل أحبه؛ عرف تاريخ البشرية شخصيتين كُرّمتا بحمل اسم الأم، هما سيدنا المسيح بن مريم والطاهر بن عائشة"، فصمت المسؤول وبلع نكتته الثقيلة قبل أن ينصرف". الإعلامية زهية بن عروس: كان زميلا لي ولوالدي بمؤسسة التلفزيون بدأت بن عروس بالترحم على الفقيد بن عيشة الذي حزنت عليه فور علمها بالخبر؛ إذ كان زميلا لها بمؤسسة التلفزيون منذ مطلع الثمانينيات. وقبل ذلك كان زميلا لوالدها بن عروس أحمد. وقالت: "أتذكّر أننا كنا نداعبه بقسم التحرير بالتلفزيون ونقول له "سمّاوك على والدتك"، وكان يفرح بذلك؛ لأنه كان يحب والدته حبا لا مثيل له" . وأضافت أنّّها عرفت الأستاذ بن عيشة كإعلامي كبير برع في مجال التحقيقات الكبرى؛ فهو من أسّس قسم التحقيقات رفقة زميله كمال بن ديصاري أطال الله في عمره، وهكذا جمع حب المهنة الرجلين اللذين قدّما الكثير للإعلام وللجزائر التي جمعت ابن قمار بابن تلمسان إضافة إلى اسم الراحل أحمد وحيد. وأوضحت: "عرفت الراحل في قاعة التحرير يجادل ويطرح الأفكار والرؤى، وعرفته أيضا كواحدة من عامة الجمهور الجزائري من خلال الروبرتاجات الكبرى في الصحاري والتنمية والثورة التحريرية، وكان يقدّم وجهات نظره بكلّ مسؤولية، وغالبا ما يفتح نقاشات متنوّعة ومثيرة". كما كان الراحل - تضيف بن عروس - يكتب، بشكل أساس، لمؤسّسة التلفزيون، وامتهن التنشيط التلفزيوني، وبالتالي استحق بجدارة وفي زمن مبكر، لقب "كبير المحققين"؛ إذ أنّه أوّل من دشن هذا المنصب في مؤسسة التلفزيون الجزائري. من جهة أخرى، أشارت المتحدّثة إلى أنّ للراحل تجارب أخرى رائدة في التاريخ والأدب، وقد استفدنا منها، لا شك، في ذلك، متذكرة كيف كانت تنصحه ليكف عن التدخين، وكان دائما يجيبها: "الموت واحدة"، وختمت قائلة: "إنّ رحيله خسارة للمثقفين وللتلفزيون الجزائري، بالخصوص لأنه من رواده وأعمدته. الإعلامي حراث بن جدو: فقدت الصديق والزميل من جهته، أكّد الإعلامي حراث بن جدو أنّ الأستاذ الطاهر بن عيشة جزائري أصيل بدمه وبأخلاقه وثقافته؛ سواء الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية، إنّه بن عيشة الشجاع الذي يقول كلمته شاء من شاء وكره من كره، كان يُسمع الآخرين كل ما يريد أن يعبّر عنه. وقال: "عرفت هذا الرجل أثناء الثورة وبعد استرجاع السيادة الوطنية، وكان لي شرف العمل معه في مؤسسة التلفزيون. كما قام هذا المناضل بأدوار أخرى خارج مؤسسة التلفزيون، خدم بها الجزائر، وكان كل ما يقوم به من مساع ومبادرات، يتماشى وأفكاره السياسية وغيرها من القناعات التي ظل ملتزما بها.. ما عساني أقول؛ فأنا حزين لفقدان الصديق والزميل والمثقف والمناضل الطاهر بن عيشة". الدكتور عبد الله بوخلخال: الراحل عُرف بالثقافة الإسلامية الصحيحة واعتبر الدكتور بوخلخال الراحلَ بن عيشة صديقا فاضلا، وهو من أعلام الجزائر خاصة في مجال الفكر الإسلامي، اشتهر برحلاته المكوكية حتى أُطلق عليه لقب "ابن بطوطة الجزائر"، وقال: "قدّم الراحل لنا خدمة جليلة كأصدقاء له وكمثقفين، تماما كما قدّمها للثقافة الإسلامية. وباعتباري كنت مقرّبا منه، أشهد أنّه كان وطنيا حتى النخاع، ومدافعا عن القضايا الوطنية وقيم الجزائر الثابتة؛ من إسلام وعربية وأمازيغية وحرية تعبير ورأي". وأضاف الدكتور أنّ جيله اكتشف أفكاره، وهم طلبة حضروا مجالسه ومحاضراته التي كان يقيمها عبر الولايات والدوائر والمناطق ليبلّغ أفكاره، وليعرّف بالثقافة الإسلامية الصحيحة. وأضاف: "الجزائر اليوم تفقد فيه مفكّرا كبيرا، وبالتالي نعزّي أنفسنا وعائلته وكلّ العالم الإسلامي". الإعلامي والشاعر إبراهيم صدّيقي: كان رجلا سمحاً "برحيل الأستاذ بن عيشة نفقد علما ثقافيا ومؤرخا كبيرا ورجلا ناضل بإمكانيات تكاد تكون منعدمة، خاصة في الستينيات والسبعينيات من أجل تثمين التاريخ الجزائري والعربي والإسلامي"، بهذا علّق إبراهيم صديقي على رحيل الأستاذ بن عيشة. وقال: "عُرف الرجل بحبه للمطالعة، وعُرف أيضا بذاكرته الفريدة من نوعها؛ فهو يتذكّر النصوص كما كُتبت، ويتحدّث عن التاريخ لفترات طويلة، وهو أقدر الناس على تذكّر التواريخ والأعلام والأحداث". أضاف أنّ الفقيد ساهم بالنسبة للإعلام البصري، في إنجاز ريبورتاجات كبرى، منها مثلا تلك الخاصة بالدول الإفريقية وحضاراتها وبالجمهوريات الإسلامية وبالاتحاد السوفيتي سابقا وببلاد الأندلس. وأوضح: "بالنسبة لي كنت أتردّد على عمي الطاهر باستمرار بإقامته بفندق "المنار" بسيدي فرج، وكان لا يطلب مني ومن غيري سوى المزيد من الكتب التي كنا نوفّرها له عن طيب خاطر. كان الراحل أيضا خفيف الظلّ والروح، وكان رجلا سمحا، وإذا داعب أدخل السرور على مستمعيه بدون أن يتجاوز حدود اللباقة". الروائي الدكتور السعيد بوطاجين: ظلّ وفيا لقناعاته عاد الدكتور بوطاجين بذاكرته إلى عام 1978، حيث عرف الراحل حينما كان طالبا في الجامعة المركزية، ثم تتبّعه لاحقا من خلال السلسلة التي كان يصدرها بجريدة "الوحدة" نهاية السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات، ثم عرفه من خلال الريبورتاجات الكبرى منها "الإسلام في الاتحاد السوفييتي". وقال الدكتور: "كان لي الحظ أن حضرت مجالسه وحواراته وسمعت ما كان يقول خاصة في الجلسات الحميمية التي تنظَّم بمقر اتحاد الكتّاب وبمقهى "اللوتس" بشارع ديدوش مراد، وفي غيرها من مقاهي العاصمة رفقة مجموعة من المثقفين والأساتذة الجامعيين والكتّاب وغيرهم، كان منهم مثلا سليمان جوادي وشريف لدرع ومحمد الحسين الأعرجي". وأشار بوطاجين إلى أنّ الفقيد كان يبيع "السندويتشات" بمقر اتّحاد الكتّاب، وكان ذلك يخلق نوعا من المزاح والألفة، وكان يسمي ما يبيع ب "سندويتش المثقف". وأضاف: "لا أدّعي أي صداقة مباشرة مع الراحل، لكني تأثّرت بما سمعته منه وبذاكرته وبطرحه العميق لقضايا تتعلّق بالتراث والإيديولوجيا والفكر، إضافة إلى مواقفه الثابتة من مسائل وقضايا وطنية، وهو من الرجال القليلين الذين ظلوا أوفياء لقناعاتهم. أشير أيضا إلى أنّني حضرت جلساته بالجاحظية مع الراحل وطار قبل أن ينقطع عنها لأسباب نشرها عبر الصحافة". الدكتور نصر الدين بغدادي: الراحل ارتبط بالشباب "الراحل بن عيشة موسوعة كبرى"، هذا ما قاله الباحث نصر الدين بغدادي في الفقيد "ناصية التعريف بالإسلام الصحيح، عرفته كطالب بالجامعة يتحدّث إلينا بلغة العلم والفكر والحجة، وعرفته من خلال تحقيقاته التلفزيونية منذ نهاية السبعينيات". وأوضح المتحدّث أنّه عرف الراحل بتوجّهه اليساري، لذلك كان يقود نقاشات وجدالا مع أصحاب التوجّه الإسلامي لكن في إطار علمي وفكري راق، وضمن خلاف ثقافي متميز. ولإعجابه بقدرات الراحل ظلّ بغدادي يتردّد على اتحاد الكتّاب وعلى بعض محاضراته بالجامعة، وكان يعجبه نقاشه الحاد والساخن وغير الممل. وأضاف: "كنت أتعلّم معه خاصة خلال حضور القامات الفكرية والثقافية التي كانت تتردّد على الجزائر من مصر وسوريا ولبنان وغيرها من أمثال أدونيس وأمين العالم وغيرهما من العمالقة" . كما أشار بغدادي إلى أنّ بن عيشة ارتبط أيضا بالشباب الذين كان يلتقيهم في كلّ مكان؛ من ذلك مقهى "جرجرة" بشارع حسيبة بن بوعلي، وكان يؤدي دور الأستاذ خارج أسوار الجامعة؛ الأمر الذي أكسبه الشهرة والتقدير. وما زاد في سمو مكانته اجتهاده وعمله الميداني وكونه مطّلعا؛ مما جعله يفتكّ إعجاب الباحثين حتى من الإسلاميين أنفسهم، الذين استفادوا منه في مجال التراث العربي والإسلامي. وقال: "أفكاره تغيّرت نوعا ما بعد الانفتاح؛ باعتباره إنسانا متفتحا ومطّلعا، له شخصيته المستقلة، ويقول الحق ولو كان مرا، ومن المحال أن يرجع إلى الوراء نتيجة شجاعته الأدبية". وزيرا الثقافة والاتصال يعزيان تقدم وزير الثقافة، عز الدين ميهوبي أمس بتعازيه الخالصة على إثر وفاة الأديب والإعلامي، الأستاذ الطاهر بن عيشة، راجيا أن يتغمده بموفور رحمته. وجاء في رسالة التعزية أنه برحيل هذا المثقف الكبير، تخسر الساحة الثقافية والإعلامية الوطنية واحدا من خيرة أبنائها، كون الراحل من أهم الفاعلين في المشهد الثقافي في فكره ورؤيته ونقده البنّاء وإسهاماته الطويلة منذ الحركة الوطنية من الثورة التحريرية إلى الاستقلال، إذ كان ملما بالتاريخ الثقافي للجزائر وكان باحثا في التراث وناقدا للممارسة السياسية. وصف السيد الوزير رحيل بن عيشة بالفاجعة الأليمة والتي تستوجب تعزية عائلة المرحوم وكل الأسرة الثقافية والإعلامية.للإشارة، فقد وري جثمان الفقيد الثرى عصر أمس بمسقط رأسه بقمار بولاية الوادي وهذا بحضور وزير الثقافة الذي عدد فيها خصال الراحل قائلا: "إن الجزائر فقدت رجلا جمع بجدارة واستحقاق بين الفكر والتاريخ والأدب والاعلام بامتياز".كما تقدم وزير الاتصال السيد، حميد قرين بتعازيه الخالصة إلى عائلة الكاتب الصحفي، الطاهر بن عيشة معبرا عن تعاطفه معها في هذا المصاب.