يتبادر إلى ذهنك عند سماع لفظ "قلعة" بنيان ضخم بمداخل ومخارج عالية وأبراج محصنة، ومخطط عمراني دقيق يحتاج إلى دليل، لكن للأسف الشديد حال قلعة بني حماد بالمعاضيد ليس كذلك. الموقع يبدو للوهلة الأولى مهجورا إلا من حجارته التي صمدت أمام تراكم السنين وتغيرات المناخ وتأثير البشر، فلا سياج يحيط بالمكان باستثناء حراس تابعين للديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحمية يضمنون سلامة الموقع في النهار، بينما يترك لمصيره مع خيوط الليل الأولى. لا يمكن زيارة المسيلة دون التعريج على موقعها المصنف تراثا عالميا من قبل "اليونسكو"، كما كان لزاما علينا الوقوف على أطلال حضارة لا تزال مطمورة وتنتظر من يعيد بعثها وتقديمها للراغبين والباحثين، رغم مرور عقود من الزمن لم تحظ قلعة مدينة بني حماد بالعناية اللازمة التي تليق بمقامها ومكانتها كحاضرة لأمراء بني حماد، كيف لا وهي التي تحظى بمخطط عمراني فريد من نوعه. الطريق المؤدي إلى القلعة رائع، وجدير بأن يكون ضمن مسار السياح، ولما لا تدعيمه بمحطات تعزّز الصناعة السياحية، فعلاوة على المناظر الخلابة، حيث يتجاور اللون القمحي مع مساحات خضراء مترامية، يداعب الوجوه نسيم عليل ينسي قساوة البيئة المسيلية، خاصة لغير المعتادين على هذا المناخ.. فمناظر المعاضيد جميلة وزادها جمالا نباتات التين الشوكي المحيطة بالمنازل القابعة هنا وهناك. 12حارسا لحماية منارة وقصور تتهاوى وتندثر تبدو قلعة مدينة بني حماد من بعيد وأنت تشق الطريق المؤدية إليها، خالية على عروشها، لكن ما إن تطأ أقدامك الموقع تجد حراسا أوكلت لهم مهمة السهر على أمن الموقع وحمايته من محاولات التخريب والسرقة. جدران المنارة التي تظل باسقة لا تخلو من الكتابة، فهناك من خطّ اسم حبيبته للذكرى وآخر أراد تخليد اسمه وثالث كتب ما خطر بباله. كما تشعر وتتذكر وأنت تصعد سلالم المنارة على علو 25 مترا جدران قاعات الدراسة التي لم تخل يوما من الكتابات، سواء بهدف الغش أو التعبير عن المكنونات. 20٪ فقط من آثار القلعة تم اكتشافها دليلنا في الموقع السيد سعيد بن طاطة (قائد فرقة الحراسة) الذي حاول قدر الإمكان تزويدنا بالمعلومات، ونحن نصعد إلى المنارة عبر سلالم حجرية، حيث أوضح أنّه باستثناء بوسعادة لا يوجد أي موقع سياحي آخر بالمنطقة، مضيفا أن 20 بالمائة فقط من آثار القلعة تمّ اكتشافها والباقي لا يزال مطمورا ينتظر الفرج. عن الكتابات الحائطية، أشار محدّثنا إلى أنّها تعود إلى سنوات خلت حينما ترك الموقع لمصيره، لكن يضيف - اليوم الأمر تغير، حيث يحرص هو وزملاؤه حاليا على سلامة الموقع من الأيدي العابثة نهارا (لا يؤمنّون المكان ليلا لاعتبارات أمنية)، موضحا في سياق آخر أنّ نقص المرافق أثّر على إقبال الزوار، لكن هذا لا يمنع أهل المنطقة من زيارة الموقع للاستراحة والتمتع بمناظره، حيث يشهد طوال الربيع حركة يصنعها الزوار. المكان الواقع على ارتفاع ألف متر فوق سطح البحر تجتاحه برودة منعشة، ويطل عليه جبلا تقربوست وقرين. المئذنة التي لا تزال صامدة في وجه التقلبات والتغيرات، تعدّ من أقدم المآذن الجزائرية، وتتألف من برج واحد، مبنية بالحجر، وهي تحفة معمارية رائعة حتى أنّ بعض الباحثين يشيرون إلى أنّ مئذنة هذا المسجد أثرت في المآذن الموحدية، وخصوصا في مئذنة جامع إشبيلية. سطح المئذنة يعدّ نقطة سوداء دون منازع، حيث عمد المرممون الأوائل للموقع في العقد السابع من القرن الماضي، إلى وضع قاعدة إسمنتية له لحمايته من مياه الأمطار وإيقاف التصدعات التي تتخلل البناية التي أنشئت على شكل قلعة مربعة بثلاث مناطق تقسم في البعد الشاقولي تلك الواقعة في الوسط وتفتح في القاعدة بباب وتتواصل على خمسة طوابق. لها شرفات وأقواس عمياء، وتمتد المنطقتان القاعديتان إلى الطابق الثاني في شكل مخبأ نصف دائري، وهي مقعرة بالداخل وفوقها قوسان متراتبان. أغلقت أبوابها، واندثرت قصورها ... السيد ابن طاطة وهو يقدّم الشروحات، أشار إلى أن المنطقة هادئة على العموم، وتعرف توافد الزوار في الربيع خاصة. عن طبيعة الزوار، أوضح أنّهم جزائريون وأجانب، من الطلبة والعائلات وكذا الوفود السياحية. مبرزا أنّ الحراس الإثني عشر المكلفين بالموقع، إضافة إلى قائد فرقة الحراسة وكذا المرشد يعملون ما في وسعهم للحفاظ على الموقع وضمان الأجواء المناسبة للعائلات والزوار، حيث يمنعون كل تصرف مشين أو دخيل من طرف بعض الأزواج والشباب، وأضاف أنّ الدخول للمئذنة يكون بتذاكر موجهة للطلبة والجمعيات قيمتها 30 دينارا، أما باقي الزوار فيدفعون 60 دينارا. لمّا كنا بموقع قلعة بني حماد، التحق ب"المساء" السيد عبد النور بن خرباش مسير متاحف ومواقع المسيلة، الذي دعانا إلى متحف قلعة بني حماد الذي أنشئ عام 1995، قصد صيانة الأغراض الأثرية المكتشفة خلال البعثات الاستكشافية والحفريات. هناك أوضح مضيفنا أنّه لا يمكن فهم طبيعة قلعة بني حماد دون المرور بالمتحف، حيث قدّم شروحات عن خصوصية القلعة وفق إعادة تصورات تقريبية للمدينة بحصونها، قصورها، أحيائها ومسجدها الجامع. السنوات العجاف تتوالى على القرية وهم.. يتفرجون السيد ابن خرباش توقّف عند تفاصيل مدينة بني حماد، وأوضح أن الأمراء الحماديين اعتنوا بتسوير مدينة القلعة لتكون منيعة، صعبة المنال وحصنا قويا يسهل الدفاع عنها. إذ كانت قلعة بني حماد محاطة بسور يبلغ طوله 7 كيلومترات، ما زالت آثاره باقية إلى يومنا هذا، يبدأ من الشط الغربي لوادي فرج من جهة الشرق، ثم يتجه نحو الشمال إلى أن يصل إلى جبل تقربوست، ثم ينحدر نحو جبل قرين ليعبر وادا باتجاه الشط الشرقي. كما اهتم الأمراء ببناء الأبراج القوية والعالية للمراقبة، ومن بين أبراج المراقبة التي يشير إليها الباحثون "برج المنار" الذي كان يمتاز بعلوه. تحيط بالمدينة 3 أبواب رئيسية واسعة شيّدت على جانبي كل واحدة منها مراكز حراسة هي بمثابة أبراج صغيرة، هذه الأبواب هي "باب الأقواس"، "باب الجنان" و"باب جراوة"، ولم يبق منها سوى "باب الأقواس". 150 هكتارا و3 قصور أشار مسير متاحف المسيلة إلى أنّ مدينة بني حماد تغطي 150 هكتارا، وعثر الأثريون بها على 3 قصور، منها قصر "المنار"، قصر "البحر" وقصر "السلام". في هذا الشأن أوضح أنّ قصر "المنار" المبني بأسلوب فني معماري بديع، يتألف من عدة مبان بعضها بجانب بعض، وتوجد به قاعات مختلفة الشكل. كان الجدار الشمالي يحتوي على ألواح رخامية مستطيلة، فوقها شريط مزيّن بعناصر هندسية منقوشة على الحجر، كانت القاعة الشرفية للمقر مفروشة بقطع من الخزف بيضاء وخضراء، وتتخلّل القصر أحواض من الزهور والأشجار. أما قصر "البحر"- يضيف محدثنا- فتم اكتشافه خلال الحفريات التي أجراها دي بيلي عام 1907، ومن مميزاته أنّ مدخله الشرفي يشكّل قاعدة صليبية الشكل وصفين من القاعات المستطيلة المتّجهة من الجنوب إلى الشمال، ورواق مفروش بالآجر الأحمر يحيط بالحوض الكبير الذي "تلعب" فيه الزوارق. قصر "السلام" يضم أربع غرف وحجرة صغيرة، يؤدي مدخله إلى قاعة مستطيلة، وبه أيضا قاعات مختلفة الشكل والمقاسات، ويشير بعض الأثريين إلى وجود قصر رابع هو قصر "الكوكب" أو "النجمة" الذي لا يزال مطمورا ولا توجد معلومات دقيقة عنه. آه ..! لو يعود بنو حماد هذا الأسبوع؟ سألت "المساء" السيد ابن خرباش عن مخطط حماية وإعادة تأهيل قلعة بني حماد وحمايتها والأشغال الاستعجالية المسجّلة في حصيلة نشاطات الولاية خلال سنة 2015 وآفاق سنة 2016، في مجال الثقافة تحت بند الاستلامات، فنفى علمه بمصير هذا المخطط الذي يشير بشأنه إلى أنّه يعود إلى سنوات خلت، لكن بقي حبرا على ورق. مؤكدا أنّه لا يعرف مواقع الخلل فيه أو أسباب عدم تطبيقه، وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة خاصة أنّ المخطط سبق أن استفاد من غلاف مالي معتبر، حسب بعض العارفين الذين التقتهم "المساء". للتذكير فقط، سبق لوزيرة الثقافة السابقة نادية لعبيدي أن ردت على سؤال شفوي يتعلق بالمخطط طرحه نائب في مجلس الأمة، حيث قالت بأنّ قطاعها يعمل على "تجاوز التأخّر" في أشغال ترميم قلعة بني حماد من خلال "مخطط ترميم واستصلاح" لهذا الموقع الأثري، على الرغم من "وجود عراقيل" تؤثر سلبا على سير المشروع. واعتبرت الوزيرة يومئذ أنّ وزارتها "ملتزمة بمتابعة القضية وتجاوز الإشكاليات التي تؤثر سلبا على السير الحسن للمشروع"، مرجعة سبب ذلك إلى "تواصل إنجاز سكنات في الموقع من قبل أفراد حائزين على رخص بناء دون مراعاة أحكام القانون (...) لأن أجزاء من الموقع خاضعة لترتيبات أمنية مرتبطة بمنشآت عسكرية". وذكرت السيدة لعبيدي أنّ المشروع الخاص بترميم قلعة بني حماد، مشروع "غير مركزي" مسجّل في إطار برنامج الهضاب العليا لحساب ولاية المسيلة تحت عنوان "أشغال إنجاز ودراسات مخطط الموقع الأثري لقلعة بني حماد". وأضافت أنّ المشروع "تمّ تسجيله سنة 2006 قبل أن تفتح المصالح المحلية مناقصات غير مثمرة حوله بين عامي 2008 و2009. وفي سنة 2011 تم اختيار مكتب دراسات، ليتوقف مجددا قبل أن يستأنف مهامه في أواخر عام 2012". وأشارت إلى أنّه "تم تحديد طبيعة الأشغال الاستعجالية للمشروع في مخطط من ثلاث مراحل، حيث تم الانتهاء من المرحلة الأولى التي أثارت تحفظات تقنية من قبل مصالح وزارة الثقافة، إلا أنها أعطت الفرصة لإنجاز الشطر الثاني قبل الانطلاق في المرحلة الثالثة". وأوضحت الوزيرة السابقة أنّ الدراسة في مرحلتها الأولى "مكّنت من تحديد طبيعة الأشغال الاستعجالية الواجب القيام بها والتحديد الدقيق لمساحة الموقع وكيفية تأمينه وتحديد المسار الثقافي والسياحي الخاص به، وأخيرا تحديد المواقع التي تستوجب إجراء حفريات أثرية فيها قبل الشروع في الترميم والتهيئة". فيما يجهل الوالي أنها مصنفة عالميا: تزايد عدد السياح والباحثين قلعة بني حماد اتخذها الحماديون كعاصمة أولى لدولتهم التي بلغت أوجها في القرن الحادي عشر، قبل أن ينتقلوا بها بعد ذلك إلى بجاية. لم تتشرف بزيارة والي المسيلة السيد محمد بوسماحة منذ توليه زمام الولاية (؟)، بل أبدى في لقائه ب"المساء" عدم علمه بأنها مصنفة عالميا، لكن هذا لم يمنع سيّاحا وزوارا قصدوا الموقع واستمتعوا بما يوفّره من هدوء وسكينة ممزوجة بعبق التاريخ الذي يشهد له تميّزه العمراني وانفراده الحضاري. قلعة بني حماد رغم ما تشهده من اندثار بطيء، لكنه أكيد، يحج إليها مهتمون وباحثون وفضوليون من مختلف أنحاء العالم. وحسب الأرقام التي قدّمها المتحف ل"المساء"، فإنّ فصل الربيع هو أفضل موسم تنتعش فيه السياحة بالمنطقة ويمكن أن يصل عدد الزائرين خلال أيام نهاية الأسبوع إلى 6 آلاف زائر، وفي أفريل 2015، قصد الموقع 3317 زائرا، وفي جوان من نفس السنة زارها 847 سائحا. أما في جانفي 2016 فنزل بالموقع 1481 زائرا، وفي مارس قدم إليها 2307 زوار، أما في أفريل الماضي فاستضاف الموقع 1947 سائحا من جنسيات مختلفة، على غرار الفرنسية، الصينية، الكندية، الفلسطينية، الروسية، المغربية، الأردنية، السودانية، الألمانية والهولندية، إلى جانب السورية، ويبقى اليابانيون أكثر القاصدين لقلعة مدينة بني حماد بشكل دوري، ويأتي السياح فرادى أو في جماعات تتكفل بهم وكالات السياحة والأسفار. على صعيد متصل، أكّد القائم على الموقع، زيادة الوعي لدى الزائرين بضرورة احترام خصوصية المكان والحفاظ عليه من الاندثار. مضيفا أنّه في حالة ما إذا طبّق المخطط مع وجود إرادة حقيقية للنهوض بالموقع، فإنه سيكون سببا في انتعاش اقتصادي للمنطقة، خاصة مع إشراك المواطنين في العملية، وقال؛ "لا أحد يُمنع من الاستثمار الثقافي، حتى المواطن البسيط"، متأسفا عن بحث بعض الأشخاص عن الربح السريع بعيدا عن المبادرة المثمرة. للإشارة، يعود تاريخ إنجاز وبناء قلعة بني حماد إلى الفترة الممتدة بين سنتي 1007 و1008 ميلادي على يد حماد بن بلكين الذي يرجع نسبه إلى زيري، أشهر أمراء صنهاجة، وهو مؤسّس الدولة الحمّادية بالجزائر. دامت مدة بناء هذا الصرح الإسلامي العظيم 30 سنة، استخدمت فيه الهندسة المعمارية الإسلامية الأصيلة بزخارف وتصميمات تعكس التراث الإسلامي. يذكر روّاد التاريخ والآثار أن بناء القلعة في هذا الموقع لم يكن عبثا، وإنما ينم عن دراسة استراتيجية معمقة لها أهداف بعيدة كل البعد عن الهدف العسكري وحده. فحماد بن بلكين قصد بناء القلعة أمام أو بالقرب من سوق "حمزة" المشهورة، لجعل الحياة بداخل أسوار القلعة سهلة وتقرّب كل ما هو بعيد للمواطن. وأدرجت "اليونسكو" قلعة بني حماد سنة 1980 في لائحة المواقع الأثرية للإنسانية، وتعرضت على مدار تاريخها الطويل إلى أحداث جسام، منذ الاصطدام الذي حصل في الزمن القديم بين الأمازيغ والعرب الهلاليين. مرورا بموجة التدمير الذي لحق قطاعا مهما من هياكلها في القرنين الخامس والسادس الهجريين. وصولا إلى ما طالها خلال القرن الماضي بسبب الاحتلال الفرنسي للجزائر، بيد أن القلعة ظلت صامدة شامخة واستوعبت قوافل من العلماء والفقهاء والشعراء والمتصوفين، وأقام بها في مختلف الفترات مزيج من السكان المحليين وبعض الوافدين إليها من الدول المغاربية المجاورة، مما مكنّها حسب جمهور الباحثين والمؤرخين من التموقع كعاصمة لحواضر الشمال الإفريقي وملتقى لمختلف تجليات الحياة الثقافية والنتاج الفكري، حتى أن الشاعر ابن هاني الأندلسي امتدحها وردّد قولته المأثورة: "قلعة بني حماد.. جنة الله في أرضه". كما اهتم عدد من الكتّاب الفرنسيي،ن أمثال لوسيان جولفان وجورج مارسي، بالطابع العمراني الأثري لمساجد وقصور ومنتزهات القلعة، دون الولوج إلى مكتنزاتها وما كانت تتوّج به مجالسها ومساجلاتها.