يقر المختصون ويجمعون في دراستهم لظاهرتي الغش والتهرب الضريبيين على أن هاتين الظاهرتين لا تمسان باقتصاد بلد دون آخر وبأنه لا يمكن لأي علم أو تخصص تحديد ما هو مهرب من تحصيل جبائي باستثناء تحديد ما يتم ضبطه خلال عمليات التحري والمراقبة من رؤوس أموال لم يخضعها أصحابها تعمدا إلى الاقتطاع الضريبي. والجزائر التي عانت ولا تزال تعاني من هذه الظاهرة المضرة بالاقتصاد الوطني دقت منذ عدة سنوات ناقوس الخطر حول الظاهرة وانطلقت من خلال الأجهزة المتخصصة في رصد ودراسة الأسباب التي أدت إلى ظهورها واستفحالها وهي الآن تعتمد في مجال مكافحتها على تحديث الإطار التشريعي وعصرنة الإدارة الجبائية من خلال استحداث مؤسسات تعتمد التخصص في التعامل مع المكلفين بالضريبة واستحداث مديريات للتحصيل الجبائي حسب رأس الأعمال وقد تم في أول مرحلة تأسيس مديرية لكبريات الشركات التي تضم حاليا حسب مديرها ألف شركة كبرى بين أجنبية ووطنية ومن المنتظر فتح مراكز ضريبية ومراكز جوارية للضرائب لتسهيل التحصيل الجبائي ومكافحة الغش والتهرب الضريبيين ومنع تحويل الأموال إلى الخارج، وتم حسب المديرية العامة للضرائب وضع بطاقية وطنية لمقتني السيارات الفاخرة والأملاك العقارية وهي إجراءات تندرج في إطار تحديث التشريع الجبائي وعصرنة الإدارة الجبائية. أخذ الغش الجبائي في الجزائر منذ منتصف التسعينات وإلى غاية السنوات القليلة الماضية أشكالا متنوعة من الممارسات غير المشروعة خلال مختلف التعاملات -الاقتصادية- التي عادة ما تتسم في هذه الحالة بعدم إضفاء الشفافية على التدفقات المالية وعدم الخضوع إلى الضريبة بالإضافة إلى تسجيل ارتفاع في عدد الخاضعين للضريبة مجهولي العنوان وانتشار الخاضعين للضريبة المزيفين وهو ما حال دون التمكن من التحصيل الجبائي وساهم باعتبار الأمر مخلا بالتوازنات المالية للبلاد في خلق أسواق غير رسمية لا تزال إلى يومنا هذا قائمة بالإضافة إلى انتشار مناطق يتم فيها تبادل كميات هامة من السلع وتدفق الأموال غير المراقبة وحسب مصدر من المجلس الاقتصادي والاجتماعي "الكناس" فإن التحولات الاقتصادية التي عرفتها الجزائر منذ منتصف التسعينيات أدى إلى تطور أشكال الغش الجبائي وبالتالي ظهور فرص أكبر لجني أرباح أكبر غير مشروعة من خلال التهرب عن دفع الضريبة وبالتالي إلحاق خسائر فادحة بالخزينة العمومية لدرجة أدت إلى تسجيل اختلال في المجال التجاري والإنتاج وحرم الخزينة العمومية من مداخيل جبائية هامة وأخل بالمنافسة النزيهة بين مختلف المتعاملين. ويرجع نفس المصدر العوامل التي أدت إلى تعميق المشكل في تلك الفترة بالذات إلى الصعوبات والبطء في الحصول على السجل التجاري وتعقد التشريع الجبائي بالإضافة إلى الصعوبات التي كانت تواجهها إدارات الضرائب والتجارة و الجمارك وعدم تكيفها آنذاك مع الأنماط الحديثة للتسيير والمراقبة بالإضافة إلى عدم استعمال وسائل الدفع الحديثة وغياب تقاليد لجوء المؤسسات إلى المختصين في مجال المحاسبة والجباية إما عمدا أو لسوء فهم. وتكشف المعطيات الإحصائية الرسمية الصادرة عن مصالح وزارة المالية استند عليها "الكناس" في تقريره الخاص بتحليل واقع الاقتصاد الموازي في الجزائر بأنه تم التوصل انطلاقا من عينة تضم 33 موردا هاما منها 18 منتجا و15 مستوردا وكذا 755 من زبائنهم من التجار أن المبالغ المخفية مقارنة بالمبلغ الاجمالي للمشتريات قدرت في أقل من سنة ب73 بالمائة وهو يمثل ما قيمته 44 مليار دينار لم يخضع إلى أي اقتطاع ضريبي. وعلى سبيل الذكر فإن عمليات البحث والتحري التي باشرتها إدارة الضرائب حول مستوردي الموز حقق 40 مستوردا مبلغا إجماليا من الواردات قدر خلال 11 شهرا من سنة 2000 بأكثر من 5 ملايير دينار ولم يصرح منها سوى 4.8 مليار دينار وهو ما يمثل نسبة 96 بالمائة. وحسب المديرية العامة للضرائب فإن حصيلة نشاط المراقبة الذي شمل 5260 عملية باشرتها هذه المصالح خلال سنة 2005 في مجال مكافحة نشاط السوق الموازية من خلال عمليات تطهير التجارة الخارجية ومراقبة عمليات الاستيراد أفضت إلى اقتراح عدم فتح أرصدة في البنوك لما يقارب 1800 ملف وتم بعد التحري منع التوطين البنكي لأكثر من 1382 متعاملا. كما تم خلال نفس الفترة حسب المصدر التركيز في مجال البحث على قطاع الصناعة الغذائية والأجهزة الكهرومنزلية وأجهزة الإعلام الآلي وأجهزة الهاتف والمواد الصيدلانية ومواد التجميل على اعتبار أن هذه القطاعات تعرف لجوء العديد من أصحابها إلى عدم استعمال الفواتير والتهرب من الضريبة وتم على ضوء العينات التي تم استهدافها بالمراقبة والتي تمثل 2217 متعاملا، اكتشاف لجوء 32 بالمائة من مجموع هؤلاء المتعاملين إلى ممارسات غش خطيرة تم بشأنها اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة. وحسب إحصائيات وزارة المالية فإن الحجم السنوي للتهرب الضريبي في الجزائر المسجل سنويا قارب 7 آلاف مليار سنتيم وهو ما يعادل مليار دولار سنويا وبطبيعة الحال فإن هذا الرقم لا يمثل الحجم المحتمل للتهرب وإنما الحجم الذي تقف عليه مختلف المصالح المعنية بمكافحة التهرب الضريبي وضبط جميع أشكال الغش التي عادة ما يلجأ إليها المتملصون من دفع الضريبة. علامات خارجية للثراء غير المبرر تكشف عن أصحابها ويؤكد السيد إبراهيم بن علي مدير العلاقات العمومية والاتصال بالمديرية العامة للضرائب في تصريح ل"المساء" بأن محاربة الغش الضريبي يندرج أساسا في إطار محاربة الاقتصاد الموازي وهو اقتصاد غير مشروع يكبد الدولة سنويا خسائر خيالية ويشكل مصدرا للربح السريع وغير القانوني من خلال تهريب السلع أو استغلال اليد العاملة الرخيصة أوعدم التصريح بالعمال بالإضافة إلى اعتماد التجارة الموازية والغش في التصريح على مستوى مختلف المصالح منها الإدارة الجبائية والجمارك ويؤدي جني الأموال الطائلة دون التصريح بها والامتناع غير المعلن عن دفع الضريبة إلى ظهور وبروز أثرياء باتوا يخلون بالتوازن الاجتماعي وفتحوا المجال لظهور فوارق في الطبقات الاجتماعية وفي مستوى المعيشة على أسس اقتصادية غير سليمة. بطاقية وطنية لمقتني السيارات الفاخرة والأملاك العقارية بالموازاة مع ذلك ولمحاربة هذا الشكل غير المتوازن في كيفية جمع الأموال وضبط المخالفين للقوانين تم اعتبارا من 2005 وضع بطاقية وطنية لتحديد كيفيات اقتناء السيارات الفاخرة ومراقبة الذين يقتنون مختلف الأملاك العقارية وتم خلال نفس السنة التوصل إلى الكشف عن وجود 835 شخصا وشركة اقتنت سيارات فخمة تم إخضاعهم إلى مراقبة مداخيلهم. وتم خلال نفس الفترة وضع قوائم للمستوردين المخالفين تحت تصرف المصالح المختصة ضمت 3873 مستوردا مخالفا بالإضافة إلى قائمة تخص المكلفين بالضريبة من الذين اعتمدوا الغش الضريبي بلغوا 4100 شخصا وهذا في إطار تفعيل إجراءات المادة رقم 2 من قانون المالية لسنة 2005 الخاص بالضريبة المتعلقة بفتح الأرصدة البنكية وبادرت خلال نفس الفترة 71 شركة بتسوية وضعيتها إزاء البنوك. وحسب مدير العلاقات العمومية والاتصال بالمديرية العامة للضرائب فإن هذه المصالح كشفت في إطار عملها المركز على محاربة هذه الظواهر المخلة بالاقتصاد الوطني عن وجود حركات تحويل لموارد هامة من الأموال إلى الخارج خلال السنوات الماضية مقارنة بما تم تسجيله من استثمارات كما تم الوقوف على علامات غنى خارجية لعدد من المواطنين بدون أن يتضح مصدر هذا الثراء ودون أن يكون هؤلاء الأشخاص معروفين لدى مصالح الضرائب. وحسب السيد بن علي فإن التهرب الضريبي يكون بشكل خاص في السوق الموازية وهو يولد منافسة غير نزيهة في مجال التجارة ويؤثر على خزينة إدارة الضرائب وتلجا الإدارة لمحاربة الغش والتهرب الضريبيين إلى تسليط العقوبات الجبائية في حال عدم التصريح أو الإنقاص في التصريح وفي حال تسجيل مناورات من طرف المتهربين والمتخلفين عن الدفع يتم فرض غرامات مالية ضخمة قد تصل إلى 100 بالمائة من القيمة الإجمالية للتهرب عن الدفع. ويؤكد محدثنا بأن التدابير التي اتخذتها الدولة لمحاربة التهرب والغش الضريبيين لم تقتصر على الجانب الردعي فحسب وإنما شملت كذلك تدابير من شانها الحث على الالتزام بدفع الضريبة من خلال التخفيف من عبء هذه الأخيرة وقد تضمن قانون المالية التكميلي لسنة 2008 إجراءات هامة في هذا المجال منها تخفيض الضريبة على شركات الإنتاج وشركات الأشغال العمومية وتلك المتخصصة في السياحة من 25 بالمائة إلى 19 بالمائة بالإضافة إلى التخفيف عن العبء الضريبي على الدخل الإجمالي بحيث بلغ معدله الأقصى 35 بالمائة بعد أن كان 60 بالمائة كما تم حسب محدثنا تبسيط النظام الضريبي وفي الجانب المتعلق بالرقابة تضمن القانون التكميلي لسنة 2008 استحداث آلية جديدة تخص تدعيم منظومة الرقابة وإنشاء آلية أخرى للتصريح والدفع لصالح المكلفين بدفع الضريبة التابعين لمديرية كبريات الشركات وتوسيع كيفيات دفع الضرائب والرسوم عن طريق الاقتطاع أو التحويل البنكي أو الدفع الآلي وتقوية منظومة الرقابة الجبائية بإنشاء نوع جديد من التحقيق يسمح بالقيام بتحقيق خاص يدعى التحقيق الظرفي من شأنه السماح لأعوان إدارة الضرائب للقيام بالتحقق من الضريبة أو الضرائب غير المدونة ويعني الأمر التحقق من الجزء أو الكل من الضريبة وتشمل العملية المعطيات المتعلقة بالمحاسبة داخل عملية الجباية. من جانب أخر وفي إطار الإجراءات الرامية إلى تبسيط النظام الجبائي أيضا تم في 2007 تأسيس الضريبة الجزافية الموحدة التي يخضع لها الأشخاص الطبيعيون بالإضافة إلى عصرنة هياكل ومصالح الإدارة الجبائية والتي تم فيها تخصيص ثلاث إدارات جبائية مكلفة بالتحصيل الجبائي والتعامل الإداري الخاص بهذا الجانب ويكون ذلك حسب رقم أعمال الخاضعين للضريبة ومنها مديرية كبريات الشركات التي تم إنشاءها سنة 2006 التي تعنى بالتعامل مع المؤسسات الأجنبية العاملة في الجزائر على اختلاف نشاطها الاقتصادي ورقم أعمالها بالإضافة إلى التعامل مع "كبريات الشركات" الجزائرية في قطاعات الصناعة والتجارة والخدمات منها البنوك وشركات التامين والمتعاملين في مجال الهاتف بالإضافة إلى قطاع المحروقات والخدمات المرفقة به وقطاع الأشغال العمومية التي يفوق رقم أعمالها 10 ملايير سنتيم وسيتم فتح مراكز للضرائب والتي قد تم منها إنشاء مركز نموذجي بالعاصمة ببلدية الروبية وتتكفل بالتعامل مع الخاضعين للضريبة الذين يقل رقم أعمالهم عن 10 ملايير سنتيم كما سيتم في نفس الإطار فتح مراكز جوارية للضرائب لفائدة التجار الصغار من الخاضعين لنظام الضريبة الجزافية الوحيدة وترمي هذه الإجراءات حسب السيد محمد غنو مدير عام كبريات الشركات في تصريح ل"المساء" إلى وضع مناخ ملائم لصالح الاستثمار ونجاعة المؤسسات وضمان تسيير أحسن لملفات الخاضعين للضريبة وتكييف إجراءات التحصيل مع ما هو مسجل في الدول المتقدمة بالإضافة إلى تدعيم إجراءات مكافحة الغش والتهرب الضريبيين. مديرية المؤسسات الكبرى -شباك وحيد للمؤسسات الوطنية الكبرى والشركات الأجنبية ويؤكد السيد محمد غنو مدير كبريات الشركات بأن إدارة الضرائب تتجه نحو عصرنة المؤسسات واعتماد التخصص في تسيير الجبائية للوصول إلى ضبط الوعاء الجبائي ومكافحة الغش والتهرب الجبائيين ومنع تحويل الأموال إلى الخارج. وتعتمد إدارة المؤسسة -حسب مديرها- على أحدث الوسائل في تسيير الملفات الجبائية وهو ما يسمح بوجود مرونة في العمل والتعامل مع مختلف الشركات ويسهل تبادل المعلومات الجبائية بين مختلف مصالح الإدارة الجبائية منها الضرائب والجمارك لضمان فاعلية في التدخل. وتعد هذه المديرية في مجال التعامل مع مختلف الشركات شباكا وحيدا لتسهيل نشاط الشركات ويضم مختلف المصالح منها التحصيل والوعاء والمنازعات والرقابة بالإضافة إلى الاستشارات الجبائية لصالح الشركات الوطنية والأجنبية هذه الأخيرة عادة ما تستفسر عن الحقوق والواجبات الجبائية المتضمنة في النظام الجبائي الجزائري. وحسب السيد غنو فإن تسيير ملفات المكلفين بالضريبة عرف تحسنا معتبرا بعد إدخال المعلوماتية في هذا المجال ومن المنتظر حسبه تدعيم التسهيلات من خلال السماح للمعنيين بدفع الضريبة بالتصريح والدفع عن بعد من خلال استغلال التقنيات الحديثة في مجال الإعلام والاتصال وهو المشروع الذي سيرى النور عن قريب. منع تحويل الأموال إلى الخارج تتمتع مديرية المؤسسات الكبرى حسب مديرها بصلاحيات واسعة على المستوى الوطني للتدخل في مجال مكافحة التهرب والغش الضريبيين وتعتمد في هذه المهمة على الاستراتيجية التي وضعتها الجزائر في هذا المجال والتي ترمي أساسا إلى دفع المكلفين بالضريبة إلى دفع ما يترتب عنهم من ضرائب بشكل تلقائي وعدم اللجوء إلى التحايل على الإدارة الجبائية ودفع الخاضع للضريبة إلى الانخراط وهو ما سمح بتسجيل تحسن واضح في التحصيل الجبائي. وتعد الاتفاقيات التي تبرمها الجزائر مع مختلف الدول الأجنبية والخاصة بمنع الازدواج الضريبي من أهم الوسائل المعتمدة لمكافحة الغش الضريبي الذي قد يصدر عن الشركات الأجنبية ويتم وفق هذه الاتفاقات تبادل المعلومات بين الإدارة الجبائية الجزائرية والبلدان المعنية. وما تجدر الإشارة إليه هو أن مشروع قانون المالية لسنة 2009 تضمن عدة تدابير من شأنها تدعيم آلية مكافحة الغش الضريبي ومنع تحويل الأموال إلى الخارج ومراقبة الأشخاص الذين يظهر عليهم الثراء دون أن يكونوا معروفين لدى إدارة الجباية للوصول إلى سد الثغرات التي من شأنها الإخلال بالاقتصاد الوطني.