تراجعت المقروئية في الجزائر الى حدودها الدنيا، إذ لم تعد تشكل فعلا ثقافيا وحضاريا مهما بقدر ما أصبحت اهتمامات استهلاكية اكثر قيمة وجلبا لشرائح عريضة في مجتمعنا. في هذا الموضوع فتحت »المساء« نقاشا مع بعض المثقفين والخبراء لطرح اشكالات العزوف عن القراءة وسبل استعادتها وتطويرها في المجتمع الجزائري. الأستاذ حسن عبروس(مؤلف وشاعر): إن المقروئية كمصطلح حديث تعني التزام عادة معينة ترتبط بفعل القراءة للكتاب وملحقاته برغبة بعيدة عن الإرغام اوالإجبار، والمقروئية هي حالة وفعل، حالة بحكم أنها فطرية في الإنسان الذي يريد الاطلاع على كل الاشياء المجهولة لديه، أما حالة الفعل، فإن هذا الاخير لا يتم إلا بمعرفة حقيقة ما يقرأ في مجال الكتابة بغض النظر عن مضمونه، وهي حالة تنسحب على جميع الفئات الاجتماعية تبدأ تدريجيا من الصغر الى الكبر. للأسف، عندنا في الجزائر هذا المفهوم لا يفي بالمطلوب نتيجة افراغه من المحتوى الاساسي لفعل القراءة، المقروئية في الجزائر عملية غير مرشدة فوضوية في كثير من الحالات، تكون بالصدفة عند البعض وقد تكون بالرغبة الجارفة عند البعض الآخر وقد تكون في شكل عملية مجاملاتية عند البعض او كي لا يظهر واحد من هؤلاء في نظر الآخرين أقل شأنا من الآخرين (نفاق اجتماعي). وهناك بعض الفئات التي تدعي القراءة والمقروئية وهي لا تعرف من الكتب إلا عناوينها. كما أنه من الخطأ الفادح أن نسمي تصفح الجرائد مقروئية، ومن الخطأ ايضا ان نسمي المقرر الدراسي مقروئية او مشاهدة التلفزيون مقروئية، والحقيقة أن القراءة لا تتم إلا بفعل حر وإرادي يلتزم به القارئ في حضرة الكتاب ولا يهم النوع المقروء سواء كان ادبيا اوثقافيا أو تاريخيا أو علميا. من اجل إعادة الاعتبار لفعل القراءة يجب أن تكون هناك آليات فاعلة تهتم بصناعة الكتاب، وصناعة الفعل أيضا (القراءة) تبدأ من الاسرة، فالمدرسة ثم المجتمع ثم الاوساط الاجتماعية على اختلافها وتنوعها المعرفي كما لا يتم ذلك أيضا إلا بوجود منظومة سياسية تشجع على القراءة وتثمن جهود القراء بجوائز سنوية أو فصلية كما يمكن لفعل القراءة أن يصبح فعلا قويا في ظل وجود مؤسسة ترعى مفهوم القراءة للجميع، كمرصد وطني يوجه أو يحفز القارئ على القراءة، ولا تكون القراءة نافعة في ظل الأمية الغالبة، ونسبة الأمية في الجزائر مدهشة حتى عند هؤلاء المتخرجين من الجامعات، وأمية الانترنت أكبر أمية تحطم مفهوم المقروئية، لأن التعامل مع شبكة الأنترنت هو في الغالب مشاهد أو متأمل لنص مطبوع إلكترونيا يفتقد تلك الحميمية التي تجدها في الكتاب المطبوع ورقيا. الدكتور زهير إحدادن (مؤلف وأستاذ جامعي): تراجع المقروئية ظاهرة عالمية، لكنها في الجزائر ظهرت بشكل أسوأ، وأعتقد أن السبب الرئيسي لها هو عجز المدرسة الجزائرية الاساسية التي لم تعلم التلميذ كيف يطالع، بحيث أننا نجد أن التلميذ من مرحلة الابتدائي وحتى مرحلة الثانوي (بما فيها النهائي) لا يعرف المطالعة ولا التعامل مع الكتاب، وقد يستمر الحال في الجامعة ليبقى الجزائري أميا في الكتاب والمطالعة. أتذكر أننا عندما كنا تلاميذ في الابتدائي، كنا نحفظ مقاطع شعرية او محفوظات ل"فيكتور هوغو"، أو "لافونتان« بطلب من المعلمة، التي تأخذنا الى مكتبة المدرسة لنختار ولنكتشف المؤلفين الذين قرأنا لهم في الحصة ونكتشف سيرهم الذاتية وإنجازاتهم، وبالتالي يتكون عندنا حب الاطلاع والتوسع في المطالعة والمعرفة وبالتالي التحصيل. الآن للأسف، تبرمج نصوصا للمنفلوطي والطاهر وطار مثلا، ولا تذكر حتى أسماؤهم على الكتب الدراسية، الكتاب اصبح اليوم سلعة يباع مثلما تباع »البطاطا« إذ أن حتى الذي يبيعه لا يعرف قيمته ولا محتواه، وقد يسأل أحدنا المكتبي عن عنوان كتاب فيرد أنه لا يملكه بينما هو موضوع على رفوف المكتبة. الدكتور نور الدين دحماني (جامعة مستغانم): المطالعة هي نشاط فكري فردي لتنمية الفكر والذوق وترقيته، كما تهدف أيضا الى المتعة والفائدة وملء الفراغ، إضافة الى اكتساب ثروة لغوية وإثراء المعارف وبناء المقدرة على الفهم والتقدير والمناقشة والاستنتاج... إلا أن المقروئية خضعت لسلم من الأولويات أصبح الكتاب فيها في آخر القائمة، حيث تراكمت عند الإنسان الجزائري مجموعة من الحاجات المستجدة التي فرضتها ثقافة الاستهلاك وواقع القروض. من جهة أخرى، فإن سياسة صناعة الكتاب وتسيير المكتبات وغيرها من الامور المتعلقة بالمقروئية، تبقى بعيدة عن التطلعات، حيث تغيب استراتيجية واضحة ماعدا بعض المساعي التي تبقى غير فعالة. فيما يتعلق بالمعارض اظن أنها لم ترق بعد الى أن تكون صالونات تقدم خدماتها كما هو الحال في الخارج. أما صناعة الكتاب في الجزائر، فهي قصة أخرى فهناك 40 دار نشر فقط وقد تحولت بقدرة قادر عام 2007 الى 2000 دار نشر، وهذا ضرب من الخيال يثير الطرافة، كما عبر عنه الاستاذ محمد بولحية من وكالة النشر والإشهار.. علما أن دور النشر المستحدثة أغلبها موجود على الورق فقط والبعض لا يملك سوى السجل التجاري ولا ينشط إلا في المناسبات، والآخر يطبع في الكتب التجارية التي لا علاقة لها بالفكر والثقافة ولا تتجاوز كتبها 1500 نسخة وهو ما ينعكس بشكل مباشر على المقروئية عندنا. أما فيما يتعلق بالمطالعة الإلكترونية فتبقى غائبة تماما عن الساحة حتى في الاوساط الأكاديمية، ذلك أن المكتبات الإلكترونية وب"آلية القراءة" هي تقنية لم تتوفر عندنا عكس بعض الدول العربية. الدكتور ميلود سفاري (عميد كلية العلوم الاجتماعية جامعة سطيف): المقروئية في سنوات الاستقلال وحتى سنوات ال80 كانت بصحة جيدة، لكنها تراجعت بفعل هذا التحول الذي اصبح مقتصرا على اللهث وراء الماديات الضيقة الفوائد، كما أن المكتبات عندنا تحولت الى وراقات لا تنشط إلا في الدخول المدرسي وأصبحت تشبه »محلات الأكل الخفيف« الى حد كبير، وحسب خبرتي كأستاذ جامعي لمدة 25 سنة، رأيت أن القراءة لا تكون إلا بتكليف أو مهمة للتحصيل الدراسي أو لتحضير الدروس، وأن أكثر مبيعات الكتب هي في الطبخ والموضة والكتاب الديني. كما أن المكتبي لم يعد ذلك المثقف المطلع على ما في مكتبته ينصحك ويدلك ويساعدك، بل أصبح بائعا مجردا من أي مؤهل، زد على ذلك حالة المكتبات من الداخل التي لا تساعد على القراءة (سوء الموقع، تهرؤ الجدران، غياب ضروريات الراحة والهدوء)، كما غابت من المكتبات أنشطة المعارض والمسابقات والنوادي والندوات وأصبحت مقابر للكتب. الدكتور الشبوكي (مدير جامعة المدية): أصبح المجتمع الجزائري يعيش قيما جديدة لانحصار دور المثقف وأصبحت القراءة شيئا مغيبا ومعيبا عند الجزائري. أتذكر أن الكتاب كان في متناولنا في ال 70 وال 80، خاصة من حيث السعر.. اما اليوم وإن كان سعره مناسبا ومتوفرا فإن البيروقراطية تحول دون الوصول إليه، فهي تعشعش في أماكن الكتاب وتنخر الإدارة، وبالتالي فإن اجتثاثها أمر عاجل، إن شعبا يقرأ شعب لا يستعبد وبالتالي فإنه يشارك في حركة التنمية، نحن بحاجة اليوم الى خبرائنا ومفكرينا، كما أن الحديث اليوم عن تكنولوجيا الرقمنة سابق لأوانه.