اختتمت قاعة "سيلا" نشاطها للطبعة الخامسة والعشرين بندوة فكرية تاريخية بعنوان "الأمير عبد القادر والكتابة" اعتبرها الحضور وبعض المنظّمين من أهم الندوات المبرمجة في صالون الكتاب، وتعبّر بعمق عن الهوية الثقافية الجزائرية في إطار علمي يحثّ على البحث والالتفات لموروثنا الذي ظلّ حبيس الغياب والسطحية والنقل. أشار الأمين العام للمجلس الإسلامي الأعلى البروفيسور بومدين بوزيد في مداخلته، إلى القيم الراسخة في الثقافة والتراث الجزائري المبنية على الصبر والشكر، والقيمة الأولى كانت بتأثير من العلامة الإمام الغزالي والثانية من الشاذلية، وهي نفس القيم التي تربى عليها الأمير عبد القادر، الذي كان، حسب المتدخل، يقول إنّه يتشبّه بالعلماء لكنه لا يدّعي أنه عالم، وهو ما يؤكّده في كتابيه "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" و"المقراض الحاد". تناول المحاضر مسألة فهم الآخر في الثقافة الجزائرية مع كتاب "الثغر الجماني في ابتسام الوهراني" لسحنون الراشدي وتحدّث فيه عن الثورة الفرنسية في القرن 18م، ثم جاءت كتابات الأمير عبد القادر المبنية على المراجع والأسفار التي قام بها، علما أنّه كان معه برونو ايتيان يصف بعض رحلاته وحياته، وكان يقول عنه إنّه يضع السلاح وكتاب "البخاري" في خيمته ومعه العلماء والفقهاء والخبراء، كما درس العلوم ودرس أرسطو عندما كان طالبا ببطيوة على يد الطاهر بلقاضي. يظهر علم الأمير في مراسلاته، وبعض كتبه ألّفها في سجنه بلومبواز، كما درس الأديان لذلك جادل المسيحيين بباريس وغيرهم، بعض كتبه كانت بطلب من القساوسة كي يوضّح لهم أفكار الإسلام وقيمه ومواقفه من قضايا شتى، وفي لومبواز قرأ الأمير الكثير من الكتب التي جلبت له من مصر مثلا، كما كانت له جلسات مع الفقيه الشاذلي القسنطيني الذي دعمه في أسره، ثم استمرت رحلته لتركيا التي رأى فيها شبها من تلمسان وحنينا لها واكتشف بها زاوية سيدي عبد الرحمن التي بنيت في عهده، ثم رحلته للتدريس بجامع الأمويين بدمشق وفيها اطلع على الفتوحات المكية لمحيي الدين ابن عربي وهو ما تجلى بعدها في كتبه "المواقف" حيث الكشف العرفاني والتأمّل بالقرآن والحثّ على أنّ الطريق إلى الله يكون بأنفس الخلائق. قال البروفيسور بومدين بوزيد "نحن نقرأ التصوّف من خلال الزوايا وهذه مغالطة تاريخية إذ أنّ الزوايا ظهرت سنة 1300 كبديل للسلطة السياسية المركزية بينما التصوّف سبقها، كما أنّ الأمير كتب أكثر في غربته خارج الجزائر بينما في وطنه كان مشغولا أكثر بالجهاد ثم تدريس تلاميذه وكان يملك مكتبة ضخمة لا تبعد عن مقره سوى ب7 أمتار". فيما أكّد المؤرّخ الدكتور عمار بلخوجة صاحب كتاب "الأمير الخصم والمعجب"، أنّ الأمير خرج من عمق الريف الجزائري أي من قلب بني شقران، ثم اعتلى أعلى مناصب العلم والعسكرية وخاض لأوّل مرة حرب العصابات وبقي متشبّثا بالكتاب رغم ظروف الحرب يفكّر في تأسيس دولة حديثة على أسس علمية متينة، وكان يرى أنّ مشروعه السياسي امتداد لمشروع ثقافي لذلك تعتبر مكتبته نواة المكتبة الوطنية الجزائرية، علما أنّها دمّرت من طرف الجنود الفرنسيين الذين كان أغلبهم لصوص وأميون وذلك في 19 ماي 1843 بقلعة طاقين بقصر الشلالة بتيارت، وبيعت بعض الكتب في أوروبا ولا تزال إلى اليوم لم تسترجع تماما كما كان الحال مع بيجو عندما سرق كتب مسجد البليدة عند احتلالها . كما أشار المتحدث إلى إعجاب الأمير بمطبعة باريس، وقال "إنّ الفرنسيين يحاربوننا بمدافع أقوى هي مدافع العلم والثقافة"، كما استقبل هناك 300 شخصية فرنسية بارزة جاءت لتتعرف عليه وتكتشف علمه في شتى الميادين . وتحدث الدكتور البشير بويجرة من جامعة وهران عن الأمير الشاعر الذي ظلّ واقفا وخلق نقاشا وصراعا بين المركز (السلطة العثمانية ثم الفرنسية) وبين الهامش أي الشعب الجزائري بكلّ مقوّماته وهي نظرية جديدة في العلوم الاجتماعية، تؤكّد على أنّ الهامش هو التاريخ الحقيقي، كما أكّد ذلك باحثون غربيون بعدها حيث اعتبروا أنّ التاريخ ليس شخصيات وحروب كبرى بل هو الهامش وبالتالي فإنّ شخصية الأمير لا يمكن قراءتها بعيدا عن هذا الهامش الذي خرج منه، وقد كتب قدور محمصاجي عن هذه البيئة التي أنجبت الأمير في كتابه "الأمير الشاب"، وكان الأمير يكوّن شباب البادية ليؤسسوا الجيش الجزائري (الشعبي). كما أشار المتدخّل إلى أنّ ظهور الأمير بباريس حقّق نتائج عكسية لفرنسا، حيث حوّل الرأي العام لصالحه ولصالح الجزائر فتمنوا قتله وخطّطوا لذلك خاصة في رحلته من باريس لتركيا. قال إنّ الأمير عاصر ما يعرف بعصر الانحطاط الأدبي حيث لم تتحقّق النهضة سوى سنة 1920 بعد البعثات المصرية للغرب، مبرزا أنّ الانحطاط يحصره النقّاد في الشكل وليس في المضمون والعمق المتعلق بالإنسان والذي عبّر عنه الأمير الشاعر سواء في الغزل متجاوزا التقليد أو في الفخر الذي تناول فيه "الأنا" الجزائرية مدافعا عن الهوية .النقاش كان طويلا وراقيا مع الجمهور الغفير أغلبه من النخبة وتناول عدّة محاور منها موقف الأمير من ملك المغرب الذي كان يسميه "عبد الرحمن العقون" لتلعثمه كردّ على خيانته، كما تناول النقاش حضور المرأة في آثار الأمير. للإشارة، أكّد بعض المشرفين على قاعة "سيلا" وهي الأكبر في الصالون على أنّها نظمت 50 موعدا فكريا وثقافيا ومعرفيا ب200 متدخل.