اتصلت "المساء" بالدكتورة مباركة بلحسن، من قسم الاجتماع لكلية العلوم الاجتماعية بجامعة وهران (2) "محمد بن أحمد"، بعد صدور كتابها الجديد "الموت وصناعة الرمزي" (طقوس ومخيال اجتماعي) عن منشورات "دار الوطن اليوم"، وطرحت عليها مجموعة من الأسئلة حول هذه الدراسة القيمة، فكان هذا الحوار. ❊ لماذا اخترت موضوع الموت تحديدا في كتابك الجديد؟ ❊❊ اشتغلت على موضوع أنثروبولوجية الجسد في بداية مشواري البحثي والعلمي، بالتركيز على الجنسانية الأنثوية، وكل ما يتعلق بها من تمثلات وتصورات في المجتمع الصحراوي بشكل عام، والمجتمع الحساني بالخصوص. وموضوع الموت يندرج ضمن هذا الحقل، يمكن اعتبار مرافقتي لطلبة علم اجتماع الانحراف والجريمة لمصلحة الطب الشرعي، اللحظة الحاسمة التي قررت فيها الاهتمام بمقاربة الموت أنثروبولوجيا، بالإضافة إلى الملاحظات العلمية، من خلال مشاركتي في طقوس الجنازة لعدة عائلات وهرانية، حيث بدأت في مساءلة بعض الممارسات، التي كانت تظهر لي على أنها غريبة وتختلف عن ما عايشته في الجنوب الجزائري. هناك تشابه بين طقس الجنازة وطقوس اجتماعية أخرى (الميلاد والزواج) وطقس الجنازة، ككل الطقوس الانتقالية، التي تعتبر من العناصر الأساسية لفهم كيف تحدد كوزمولوجيا الشعوب الأصلية وأنطولوجيتهم، مقارنة بالآخرين من حيث تنظيم الحياة الاجتماعية والرؤية الكونية والعلاقات مع الثقافات الأخرى، والطقوس كذلك هي علامة أو دليل على دورة الحياة، أو كدورة تقويمية في الحياة الاجتماعية والدينية للشعوب. لأنه من خلال الطقس، تتجسد العديد من الأبعاد (الروحي، الديني، الاحتفالي، التنافسي، البضائعي، الإنساني والمقدس)، وتنسج من خلاله وأثناء مراحله، علاقات قرابية وتحالفية، وبعد تسجيل ملاحظاتنا حول حدث الموت ومحاولة تأويله، وقفنا على تشابه طقس الجنازة بطقوس اجتماعية أخرى (الميلاد والزواج) من حيث المدة الزمنية والتحولات الاجتماعية والبيولوجية، التي قد تحدث على مستوى الجسد والتشابه في العديد من الأبعاد التي ذكرناها سابقا. حاولنا أن نفهم ظاهرة الموت من خلال علاقة الأحياء بالميت (الجثة) ❊ ما السبب في تخصيص بحثك حول صورة الموت في المجتمع الصحراوي تحديدا؟ ❊❊ اختياري للمجتمع الصحراوي كان لأسباب ذاتية وموضوعية في الوقت نفسه، منذ مدة، انصب اهتمامي على المجتمع الصحراوي الذي أنتمي إليه، باعتباره جزءا مهما من التركيبة السوسيو-ثقافية للجزائر، ولاعتبارات علمية ومعرفية أنثروبولوجية محضة، تتطلب منا التركيز على الخصوصية الثقافية، والشمولية في الوقت عينه. بهدف مقاربة بعض الظواهر الاجتماعية، وإعطاء الطابع المقارن لدراسة المجتمعات. ❊ يحمل الموت دلالة متعددة، فهو يمثل حالة فردية، وفي نفس الوقت حالة اجتماعية وثقافية ودينية، وحتى نفسية واقتصادية، كيف أوضحت ذلك في كتابك؟ ❊❊ يٌدخل الموت الأحياء، ممن تربطهم علاقة بالفقيد، في مجتمع خاص من حيث العلاقات والممارسات الاجتماعية والثقافية، والخروج من هذا العالم أو المجتمع الخاص، يؤثر على الأحياء من حيث المكانة والحالة الاجتماعية، وبالأخص من تربطهم علاقة قرابة بالميت، مثل الزوجة التي تصبح أرملة، والأطفال الذين يصبحون يتامى... إلخ. نحن ندرك أن التغير في الحالة الاجتماعية للفرد، ينجر عليه تغير في الرباط الاجتماعي، مما يؤثر على شبكة علاقاته الاجتماعية ومكانته داخل المجموعة التي ينتمي إليها، وهو ما يجعلهم يدخلون في نمط حياتي جديد، يفرض عليهم الاشتغال على الذات "le travail sur soi" لإعادة إنتاج ذواتهم. ورغم مظاهر الحداثة في المجتمع الجزائري، والتقدم الطبي والعلمي، والادعاء بأن النزعة الفردانية أصبحت الصفة المهيمنة، مقارنة بالنزعة الاجتماعية، إلا أنه لا يزال مجتمعا محافظا على مستوى التعابير والطقوس والممارسات الاجتماعية والمشاعر، وهو ما أكدته تجربتنا مع وباء "كوفيد 19"، الذي بدأ في الانتشار على المستوى المحلي، بداية شهر فيفري 2020، حين رفضت العديد من العائلات تعامل السلطات المحلية مع موتاهم، دون القيام بالطقوس الاجتماعية الخاصة بالتغسيل والتكفين والدفن وإقامة الجنائز، فقد أصدرت السلطات العليا تعليمات بمنع التجمعات في الجنائز والولائم، لتوعية المواطن بخطورة الوباء وسرعة انتشاره، لكن هذا لم يمنع بعض الأسر من اللجوء للمحسوبية، مثلا، للحصول على جثث موتاهم المتوفين بسبب الوباء، بهدف تغسيلهم وتكفينهم ودفنهم حسب الطقوس الاجتماعية التي تليق بهذا الحدث الاجتماعي المهم. لايزال المجتمع محافظا على مستوى التعابير والطقوس والممارسات الاجتماعية والمشاعر المتعلقة بالموت، وهو ما ظهر جليا في وباء "كوفيد19" ❊ وُجد الموت منذ وجدت الحياة، لكن مع اختلاف في طقوسه، فإلى أي درجة اختلفت طقوسه في بلدنا؟ ❊❊ الموت جزء لا يتجزأ من الحياة، وهو سيرورة تمتد من الولادة إلى ما بعد الموت الإكلينيكي، وكل المجتمعات، حسب اختلافها الثقافي، تتمنى أن تكون أزلية ولو رمزيا واجتماعيا عبر الذاكرة الجماعية. فالحياة عبارة عن مجموعة من الممارسات والتفاعلات الاجتماعية، الهدف منها أن نحظى بطريقة اختفاء لائقة، تجعلنا نبقى في ذاكرة الجماعة التي ننتمي إليها، أقصى مدة زمنية ممكنة (الديمومة). وهنا يكمن الاختلاف، أي طريقة تعامل المجتمعات مع موتاهم، وجعلهم يختفون حسب القوالب الاجتماعية المتعارف عليها، فهناك فرق بائن بين المجتمعات التي تسرع في عملية الدفن، وبين تلك التي تحتفظ بالميت لفترة زمنية مثلا. فإذا ما قارنا طقوس الجنازة في مدينة وهران، بتلك التي تمارس في مدينة تندوف، مثلا، بداية بعملية الاحتضار إلى غاية الدفن وما بعده، فإن الاختلاف واضح يستدعي منا بحثا أنثروبولوجيا واسعا ومعمقا. لكن اقتصرنا في هذا النص، على الوقوف على بعض المراحل التي قد تساعد على إبراز هذه الخصوصية الصحراوية في العلاقة بالجثة. ففي أغلب المجتمعات، يطغى البعد الديني على الطقوس الجنائزية من بدايتها، والمتمثلة في الاحتضار إلى نهايتها، والتي لا يمكن لنا كباحثين أنثروبولوجيين أن نحددها، لأنها تختلف من مجتمع لآخر، ومن عائلة إلى أخرى، فهناك من تنتهي طقوسه الجنائزية بمجرد دفن الميت، وهناك من تتواصل لديه إلى ما بعد الدفن، كبناء القبر والكتابة على الشواهد وزيارة القبور. إن زيارة القبور في منطقة تندوف غير مستحبة لمجتمع النساء، مثلا، بينما سجلنا حضورا قويا للعنصر النسوي في المدن الشمالية، بل هناك من يعتبر أن المقابر أصبحت فضاء نسويا بامتياز في عدة مدن جزائرية، مقارنة بفترات زمنية سابقة. أغلب المجتمعات يطغى البعد الديني فيها على الطقوس الجنائزية ❊ هل يمكن القول إن هناك طقوس للموت ما قبل الجائحة وأخرى مختلفة لما بعدها؟ ❊❊ إن تجربتنا مع جائحة "كورونا"، أكدت أن الفرد لم يتحرر بعد من الحاجة الاجتماعية إلى الآخر، رغم الاستقلالية المادية، لأن الأفراد تعودوا على الأساليب والقوالب الاجتماعية التقليدية، كتضامن الأهل والجيران في تشارك الحزن والتحضير لمراسيم الجنازة لمواجهة ألم الفقدان والوفاة، والمجتمع الحالي لم يجدد هذه القوالب الاجتماعية التي يعبر من خلالها على مشاعر الحزن والأسى، حسب التحولات التي حدثت على المستوى الطبي، العلمي، الاجتماعي وحتى الاقتصادي. ولا يمكن الحكم على مدى تأثير هذا الوباء على ممارساتنا الاجتماعية والثقافية المتعلقة بطقوس الجنازة، ونحن لا زلنا تحت وطأة الصدمة التي خلفتها الجائحة في نفوس الأفراد، من أضرار نفسانية ومعنوية، رغم تسجيلنا لصورة الموت التي أصبحت تظهر في شكل مبتذل، إلى حد ما، إذا ما قارناها بما قبل الجائحة، بالإضافة إلى تسجيل بعض التغيرات الطفيفة، كالإعلانات المحتشمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لبعض العائلات التي فقدت أحد أفرادها، والتي تطلب من خلالها من الأقارب والأصدقاء الاكتفاء بتقديم العزاء عبر الهاتف النقال. ❊ ما هي رمزية الجثة في مجتمعنا الجزائري؟ ❊❊ تظهر العملية الرمزية بقوة على مستوى الطقوس الجنائزية، حيث يصبح من الصعب تمييز طبيعة العلاقة بين الموت والحياة، وبين الجسد والروح، وعلاقة الأحياء بالجثة هي الصورة الرمزية لعلاقة المجتمعات بظاهرة الموت، هذه العلاقة التي تتجدد حسب الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والصحية. فمفردة "الجثة"، حسب دافيد لوبروتون، تجعلنا نواجه بشكل جذري إشكالية الثنائية الروح/ الجسد، أو كما أسماه لغز الوجود، لأنها تجعل أمامنا الجسد في ثقله المادي. والموت الرمزي الذي يظهر بقوة في الطقوس التمهيلية يعتبر النمط الاجتماعي بامتياز، لأن الأحياء يحاولون مقاومة وجع الفقدان من خلال التفاعل مع جثة الفقيد والاعتناء بها. هناك تغيرات حدثت بفعل الجائحة والمتعلقة بالموت وإن كانت طفيفة ❊ كيف كانت رحلة البحث لتأليف هذا الكتاب القيم؟ ❊❊ لم تكن سهلة بسبب ارتباط الظاهرة المدروسة بمصيرنا كبشر، لأن الموت كظاهرة حتمية، تتميز بالكآبة والمأساوية والرعب، وهي تعني الأحياء أكثر من الأموات، فطقس الجنازة يجعلنا نركز على مبدأ الخسارة، وتكمن صعوبة مقاربة ظاهرة الموت في تحديدها وتموقعها زمانيا ومكانيا، وهو ما عبر عنه لويس فانسون توماس Louis-Vincent Thomas في كتابه "الموت والسلطة" Mort et pouvoir حين تساءل "أين نموقع الموت؟"، أي أنه لا يمكن أن نموقعه، حسبه، في مكان ما كماهية، لذلك فهو يرى أن الموت يوجد في كل مكان كسيرورة، لأنه يبدأ منذ الولادة، ويمتد إلى ما بعد الموت الكلينيكي والبيولوجي، واعتبر أن كل الممارسات الاجتماعية المتعلقة بظاهرة الموت، تؤسس على مبدأ "التجنيد الجماعي" لتحييد فقدان الميت، كما يعتقد أنه لا يمكن بأي حال، مناقشة الموت إلا بطريقة موسوعية وغير متجانسة، تنقصها الشمولية، والاهتمام بالموت كمشروع بحث هو في الحقيقة محاولة تجسيدها، أي إخفاؤها وحصرها في أرقام إحصائية، كما أننا لا يمكن أن نتحدث إلا على ما يمكننا التحكم فيه، بينما التحكم في الموت لا معنى له. لذلك، نحن لم نركز في هذه المقاربة على الموت الفيزيقي والجثة فقط، بل حاولنا أن نفهم ظاهرة الموت من خلال علاقة الأحياء بالميت (الجثة)، وموقف الإنسان من الموت، وما تحمله هذه العلاقة من دلالات ورمزيات وتمثلات. لأن تفسير ومقاربة ظاهرة الموت من خلال المسار الحياتي للأفراد والعلوم الطبية خاصة والمعتقدات، يجعلنا نفهم كيف يتحول تمثلنا للموت ومواقفنا اتجاه الميت (الجثة). علاقة الأحياء بالجثة هي الصورة الرمزية لعلاقة المجتمعات بظاهرة الموت ❊ قبل ان نختتم هذه المقابلة الشيقة، يمكن الحديث أيضا عن فحوى كتابك "المرأة الحسانية وثقافة الجسد: مقاربة أنثروبولوجية للجنسانية"؟ ❊❊ نعم، صدر كتاب "المرأة الحسانية وثقافة الجسد: مقاربة أنثروبولوجية للجنسانية" عن "دار الوطن اليوم، أكتوبر 2019"، وهو دراسة ميدانية في حقل الأنثروبولوجية الثقافية والاجتماعية لمجتمع لم يُدْرس كما يلزم أن يدرس، وبقي مهمشا من قبل الباحثين ومن الأكاديمية عموما. وقد حاولت بعدما خرجت من مجتمعي الأصلي، الوقوف على مكانة المرأة الحسانية في مجتمع محلي ذو خصوصية ثقافية بارزة، بالاعتماد على مقاربات نظرية وتقنيات البحث الميداني الأساسية في حقل الأنثروبولوجية، من أبرزها تقنية الملاحظة، وهو ما مكنني من إعادة النظر ومساءلة العديد من الظواهر الخاصة بالمرأة ومكانتها وثقافة جسدها، والتي كانت تظهر لها قبل الخروج على أنها ظواهر عادية وبديهية. إن الخروج إلى مجتمع آخر، ثم الرجوع إلى المجتمع الأصلي، يجعل الباحث أكثر انتباها، لأن النظرة الخاصة بمجتمعه تبقى أساسا مرتبطة بثقافته المحلية، مما يمكنه من تجاوز ظهور ما كان يرى على أنه "طبيعي" في الظاهرة الاجتماعية، وإبراز نسبيتها، وهو ما يحث على المقارنة الضرورية في مثل هذه الأبحاث مع ثقافات أخرى. وقد قسمت الكتاب إلى ستة فواصل وهي؛ "ملامح النظام الاجتماعي الحساني من لسان وبنية وتركيبة اجتماعية". "صورة المرأة في المدونة الحسانية من شعر"، "أزوان ومصطلح حساني". "مسألة ترويض الجسد الأنثوي والسوائل الجسدية". "تقنيات الإغراء والجمال". "إشكالية الرقابة الاجتماعية ورهان المكانة الاجتماعية وعلاقتها بسوق الزواج". و"جدلية الرغبة والألم والتمثلات الاجتماعية المرتبطة بالمتع والمرأة". كما طرحت في خاتمة كتابي، رهان تجاوز النمطية وصعوباتها.