يعد الصلح إجراء جوهريا لا بد من اللجوء إليه كمرحلة أولية قبل مباشرة إجراءات الدعوى أمام المحاكم في قضايا الأحوال الشخصية، وعلى الرغم من أهميته باعتباره يعمل على إزالة النزاع القائم بين الزوجين ويسمح باستمرار الحياة الزوجية والتوازن النفسي للأولاد، إلا أن الوصول إلى تحقيق هذا الهدف يظل محتشما، وهو ما أكده بعض المحامين الذين أقروا بأن نسبة نجاح الصلح تنحصر بين 5 و10 بالمئة فقط. بالرجوع إلى أحكام المادة 49 من قانون الأسرة نجد أنها تنص صراحة على أن الطلاق لا يثبت إلا بحكم بعد محاولة الصلح من طرف القاضي، على أن لا تتجاوز مدة الصلح ثلاثة أشهر.." وبما أن أحكام قانون الأسرة مستوحاة من الشريعة الإسلامية نجد أن الآية القرآنية دعت إلى الصلح لما فيه من خير حفاظا على الحياة الزوجية، باعتبار أن عقد الزواج رباط مقدس، حيث يقول المولى تعالى في سورة النساء" وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ان يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما .." إلا أن ما تكشف عنه المحاكم اليوم ينبئ بضعف نسبة نجاح مساعي الصلح مقارنة بنسب الطلاق العالية والتي تقع يوميا ولأسباب تافهة. وعند البحث عن الأسباب التي جعلت من الصلح إجراء غير مجد في الحفاظ على استمرار الحياة الزوجية، جاءت الآراء مختلفة، حيث أرجعها البعض إلى أهل الزوجين، وهناك من ألقى باللوم على عاتق المحامين والقضاة، بينما ألقى البعض الآخر بالمسؤولية على عاتق الزوجين ذاتهما. إهمال المجلس العائلي في السعي للصلح أرجع بعض المحامين الذين التقتهم "المساء" بمحكمة عبان رمضان بالعاصمة السبب الرئيسي في ارتفاع نسبة الطلاق بالمحاكم الجزائرية إلى تراجع دور أهل الزوجين في محاولة تجنب حدوث الانفصال من خلال العمل على حل المشكل المطروح بينهما بالنقاش والحوار، وفي هذا الخصوص تقول المحامية (نبيلة.س) "إن أغلب الأشخاص الذين يقصدون المحاكم لطلب الطلاق تكون لديهم نية في إنهاء العلاقة الزوجية، وعندما نسأل أحدا من أهلهما كوالد الزوجة مثلا أو والدتها إن سبق لهما وحاولا حل المشكل العالق بينهما بطريقة ودية، نجد بأن مواقفهم متصلبة ولا تسمح بفتح المجال لإعادة النظر في الخلاف الواقع بينهما" وتروي المحامية وقائع إحدى القضايا قائلة: "حدث يوما أن قصدت مكتبي شابة متزوجة حديثا رفقة والدتها لتطلب الطلاق من زوجها الذي ضربها بسبب خروجها من منزل الزوجية دون إعلامه، وعندما حاولت تهدئتها والاستفسار عن إمكانية حل هذا المشكل بطريقة ودية من خلال استدعاء زوجها والتحاور معه بالمكتب لحل المشكلة كونه ليس سببا وجيها لطلب الطلاق تدخلت والدتها وقالت: "ما كاين حتى هدرة بيناتنا ... وماشي بنتي ألي تتضرب؟" وتعلق المحامية قائلة بأن بعض أفراد العائلات الجزائرية الحالية وبمجرد وقوع خلاف تافه بين أبنائهم المتزوجين يتحولون إلى أعداء ويلجأون مباشرة إلى المحاكم طلبا لحل الرابطة الزوجية، وهو ما يبرر ارتفاع نسبة الطلاق، وتضيف: "حتى بالنسبة للحالات التي مرت علينا وتأكدنا من أن كلا الطرفين سبق لهما وأن اجتمعا في المجالس العائلية لمحاولة حل النزاع القائم، يتبين بأن اللجوء إلى هذا الإجراء يكون عرضيا لغياب النية في تحقيق الصلح من خلال الاجتماع، حيث يرغب كل طرف من العائلة في إلقاء اللوم على الطرف الثاني، وبسبب عدم تنازل طرف لصالح طرف آخر يكون الاجتماع العائلي من غير فائدة، بل على العكس في بعض الحالات يعمق المجلس العائلي من حدة الخلاف أكثر من خلال عزوف والدة الزوجة أو الزوج عن حضور المجلس العائلي بحيث تعبر هذه المواقف بطريقة غير مباشرة عن رفض إصلاح ذات البين". فشل الصلح يعود بالدرجة الأولى إلى الزوجين أجمع بعض المحامين الذين التقيناهم بمجلس قضاء الجزائر على أن السبب الرئيسي وراء فشل الصلح يتعلق بالدرجة الأولى بالزوجين اللذين يصران عند حضور جلسة الصلح على استحالة الحياة الزوجية بينهما، وأن الوصول إلى المحكمة يقضي على أية فرصة للرجوع، لأن كلا الطرفين وقبل الدخول إلى جلسة الصلح تكون لديهما قناعة ثابتة بأن الطلاق هو الحل الكفيل لإنهاء المشكل العالق بينهما، وفي هذا الشأن يقول الأستاذ سعيد محام معتمد لدى المجلس : "من خلال تجربتي البسيطة ثبت لي أنه من النادر جدا في المحاكم الجزائرية وصول الصلح إلى تحقيق النتيجة المرجوة منه، فعلى الرغم من كونه إجراء جوهريا لا يمكن التقاضي من دون اللجوء إليه، إلا أن نتائجه على أرض الواقع تظل غير ظاهرة، وهو ما يعود إلى غياب ثقافة الصلح لدى المجتمع الجزائري الذي يرغب بعد وصوله إلى المحكمة تحقيق نتيجة الطلاق". ويضيف" أقول هذا لأنه بعد أن يصدر حكم الطلاق نجد أن الزوجين يعودان لإبرام عقد الزواج من جديد، وبالتالي فإن ما يفشل الصلح في تحقيقه يحققه حكم الطلاق بعد مدة من صدوره، لذا أعتقد أن فشل المجلس العائلي في إعادة الطرفين لبعضهما يجعل من الصلح إجراء قانونيا لصحة الدعوى لا غير". من جهة أخرى أكد بعض رجال القانون أن عدم اكتراثهم بنتائج الصلح راجع إلى اطلاعهم المسبق على نوايا الطرفين التي تنبئ بغياب الرغبة في إنهاء الخصومة من خلال التغيب عن حضور جلسات الصلح التي تعقد قانونيا ثلاث مرات فإن أصر أحد الأطراف على عدم الحضور فهذا يعني بأنه لا يأبه بالصلح وبالتالي يتم جدولة القضية لمباشرة إجراءات الطلاق، مما يعني أن نجاح الصلح يبقى مرتبطا بمدى وعي طرفي النزاع. المحامي والقاضي ملزمان ببذل جهد وليس بتحقيق نتيجة في الوقت الذي ألقى فيه بعض رجال القانون مسؤولية فشل الصلح في منع وقوع الطلاق بين طرفي النزاع "إلى جانب فشل المجلس العائلي من خلال تعميق بؤرة الخلاف، فإن البعض الآخر من رجال القانون ألقوا المسؤولية على عاتق بعض المحامين والقضاة الذين لا يبذلون أي جهد في السعي من أجل منع وقوع الطلاق، فالمحامي لا يهتم بالصلح الذي من شأنه أن يقضي على النزاع، وبالتالي تضيع معه أتعابه ومن أجل هذا يسعى وعلى مستوى مكتبه إلى معرفة سبب النزاع والبحث عما يرضي ويريح موكله، بينما ينحصر دور القاضي في الاهتمام بالصلح كإجراء جوهري ينبغي مراعاته لصحة سير إجراءات الدعوى. من ناحية أخرى أكد بعض المحامين أنهم يتجهون مباشرة إلى البحث عن أسباب النزاع والعمل على تقديم النصيحة التي من شأنها أن تحمي العائلة من خطر الطلاق، لا سيما في ظل وجود الأولاد الذين يعتبرون أولى ضحايا الطلاق، وحول هذه النقطة تقول الأستاذة "سليمة. ي" بأن المحامي ملزم ببذل جهد على مستوى مكتبه من أجل إصلاح ذات البين انطلاقا من مبدأ أن ليست كل أسباب الخلاف تؤدي إلى الطلاق بالضرورة، وبالتالي فإن المجلس العائلي ومحاولة الصلح على مستوى مكتب المحامي وأمام القاضي، كلها مراحل قد تدفع بالزوجين إلى إعادة حساباتهما لحل النزاع بصورة ودية، وهو ما حدث فعلا بمكتبي حيث تمكنت من إعادة زوجين لبعضهما البعض بعدما أصرا على إنهاء الرابطة الزوجية لسبب بسيط، وهو عدم رغبة الزوجة في ارتداء الحجاب!". وتضيف ينبغي الإشارة والتنبيه هنا "إلى أن المحامي غير ملزم بتحقيق نتيجة إنجاح الصلح، فإذا تعنت موكله وتمسك بقضيته ورغبته في حل الرابطة الزوجية، فإنه لا مجال لإلزامه بغير رغبته، لأنه في آخر المطاف ملزم بالنزول عند طلب موكله، "وعن دور القاضي يقول الأستاذ جمال عيدوني رئيس النقابة الوطنية للقضاة والذي التقته "المساء" بمقر نقابة القضاة بالشراقة "بأن الصلح عمل إجرائي ملزم للقاضي ولأطراف النزاع في قضايا الأحوال الشخصية حيث يلتزم القاضي في جلسات الصلح بالقيام بعمل المصلح من خلال البحث في أسباب النزاع والاستماع إلى الطرفين ومحاولة تبسيط المشكل لتفادي الطلاق، إلا أن ما نشهده اليوم هو أن أغلب النزاعات التي تطرح في جلسات الصلح يتم الفصل فيها قبل الدخول إلى الجلسة، أي أن الطرفين في جلسة الصلح لا يفتحون أي مجال للنقاش، بدليل أن بعضهم يتجنبون حتى حضور الجلسة، وإنما يقصدون المحكمة لتثبيت الطلاق بحكم قضائي لا غير، لذا يظل احتمال نجاح الصلح مرهونا بطرفي النزاع.