تمكنت حركة التحرير الفلسطينية "فتح" من اجتياز امتحان مؤتمرها السادس بنجاح بعد أن تم تشريح مشاكلها ووقف الجميع على أمراضها وكيفية الخروج من حالة الجمود التي أصابتها، ولكن سؤالا يبقى مطروحا حول آليات تطبيق توصيات مؤتمرها على ارض الميدان.وهو تساؤل نابع من كون حركة فتح التي حتى وإن كانت تمثل السلطة الفلسطينية وطرفا في عملية السلام إلا أنها لم تعد تمتلك الثقل الذي يؤهلها لقول كلمتها أمام إدارة احتلال جشعة وداخل ساحة فلسطينية لم تعد تتقبل افكارها. كما أن اتفاق المشاركين في مؤتمر بيت لحم على مقاربة مزاوجة الاستمرار في خياري المقاومة والمفاوضات في آن واحد يحمل في طياته تناقضا واضحا يجعل من الاستحالة التوفيق بين هذين التوجهين المتناقضين حد التنافر بل انه تزاوج قد يضر بمصداقية الحركة أكثر من خدمة موقفها بعد أن يغادر الجميع قاعة المؤتمرات ويصطدموا بواقع الاحتلال والمشاكل الداخلية المتراكمة. ويجب القول أن الحركة ما كان عليها أن تؤكد مثلا على الاستمرار في خيار المفاوضات دون المقاومة وهي تدرك أن تراجع مصداقيتها ودورها في الساحة الفلسطينية إنما كان بسبب انسياقها وراء وعود السلام والمفاوضات وخيار أوسلو وكان من أولى نتائج ذلك الضربة القوية التي تلقتها في الانتخابات العامة بداية سنة 2006 وهزيمتها التاريخية أمام حركة المقاومة الإسلامية "حماس". ليس ذلك فقط فحركة "فتح" وبمنطق سياستها الحالية ستجد صعوبة في تغليب لغة المقاومة في حال فشلت المفاوضات بل أن تركيزها على مثل هذا الأمر سيدفع بإسرائيل إلى انتهاج سياسة تسويف قادمة ومبررها في ذلك أن الشريك الفلسطيني في المفاوضات مازال يؤمن بخيار السلاح لحصوله على مطالبه. ولم تكن الحركة ضحية التزاماتها الدولية فقط، بصفتها تمثل منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بل إن عوامل انتكاستها حملتها في طياتها بعد أن حمل مسؤولون في داخلها مسؤولية تراجع دورها الكفاحي المدافع عن القضية الأم بعد أن تضاربت مصالح هؤلاء وكثرت الاتهامات بتفشي حب التسلط لدى البعض والثراء غير المبرر لدى البعض الآخر وتعاطي الرشوة بالنسبة لآخرين. والأكثر من ذلك؛ فإن فتح فقدت موقعها كطرف مفاوض محوري في أية ترتيبات عملية لتحقيق السلام مع إسرائيل ووجدت نفسها بعد أكثر من خمسة عشر سنة أمام أمر واقع فرضته حكومات الاحتلال الإسرائيلي واتضح في النهاية أن مسار السلام لم يكن في الواقع إلا فخا كبيرا للفلسطينيين استغلته إسرائيل لإقامة الجدار العازل وعمليات استيطان غير مسبوقة وتهويد مفضوح للمعالم العربية والإسلامية في القدس الشريف. بل إن تلك المفاوضات وخيار السلام مع إسرائيل بضغط أمريكي ومن دول إقليمية دفع بها إلى الدخول في مجابهة مفتوحة مع حركة المقاومة الإسلامية كان من نتيجته اقتتال دام في غزة وانقسام في الأراضي الفلسطينية وشرخ سيكون من الصعب رأبه بين عامة الفلسطينيين. وينتظر من خلال ما تسرب من مواقف في مؤتمر بيت لحم إزاء حركة حماس أن تشنجا لاحقا سيطبع علاقة الحركتين بعد أن أكد الرئيس عباس أن فتح سوف لن تنسى ما فعلته غريمتها حماس بمنعها لمناضلي حركته في قطاع غزة من حضور أشغال المؤتمر. وعيد سيؤدي دون شك إلى إذكاء نار الفرقة بين الحركتين في اقل من ثلاثة أسابيع قبل جولة حوار بينهما في العاصمة المصرية وسيلقي بظلاله باتجاه إفراز نتيجة سلبية أو تأجيل آخر لجولة حوار مصيرية. ولأن الصورة اهتزت خلال السنوات الأخيرة بسب وجوه قيادية، فإن الرئيس عباس الذي أعيد انتخابه سيجد صعوبة في مواجهة هذا الواقع والقيام بعملية "أيادي نظيفة" حقيقية في داخل الحركة قد تطال وجوها من محيطه القريب وهو أمر لا يبدو سهلا بسبب حسابات التوازنات الداخلية للأطراف الفاعلة في الحركة. ولكن المؤكد أن الرئيس عباس والقيادة التي ستنبثق عن انتخابات اللجنة المركزية والمجلس الثوري ستكون مرغمة على التحلي بشجاعة كبيرة من اجل مواجهة الواقع كما هو إن كانت تريد فعلا استعادة قاعدتها الشعبية المفقودة في وقت تؤكد فيه كل المعطيات على زحف متواصل لحركة حماس حتى في معاقل فتح. وهو خيار أصبح أكثر من حتمي وخاصة وأن موعد الانتخابات العامة والرئاسية ليس ببعيد وكل تأخير في حسم الأمور سيكون كارثيا على فتح التي شكلت وإلى غاية السنوات الأخيرة رمز الكفاح والكبرياء الفلسطيني، صورة يتعين على القيادة الجديدة المحافظة عليها ولكن الثمن سيكون باهظا على الأقل من حيث شجاعة القرارات والمواقف.