يطرح خبراء الشأن المسرحي في الجزائر، سبعة أسئلة، وحزمة سيناريوهات بشأن راهن وأفق تسويق العروض المسرحية. وفي هذا الشأن، يبدي الدكتور محمد بوكراس أسفاً لاستمرار بقاء مسألة التسويق المسرحي في الجزائر، رهينة الاستفهامات منذ سنوات دونما اعتماد خطوات إجرائية ملموسة، متسائلا عن مدى حضور التسويق كمفاهيم وآليات وممارسات في المؤسسات المسرحية المحلية، وهل تعتمد المشاريع التسويقية في بلاده، على دراسات سوسيو ثقافية لطبيعة الجمهور المستهلك، بما يمكّن من معرفة حاجاته ومتطلباته. يضيف مدير المعهد العالي لمهن فنون العرض: "بانخراط مجتمعاتنا في عالم الرقمنة وتكنولوجيات الاتصال الحديثة، هل واكبت مؤسساتنا المسرحية هذه الهبّة الرقمية؟ وبأيّ كيفية؟ أم هي مجرّد ممارسات تقليدية على وسائط رقمية؟ ثمّ ألا نخشى أن الالتفات إلى التسويق المسرحي سيقودنا إلى مساحات جديدة، يتحول معها المنتج المسرحي إلى سلعة، والجمهور إلى زبون، والمؤسسة المسرحية إلى مصنع، والعملية الإنتاجية إلى صناعة، والساحة الثقافية إلى سوق، بما سيُخضع شبّاك التذاكر لقانون العرض والطلب، وثنائية الربح والخسارة؟". من جانبه، يلاحظ الفنان المسرحي سفيان عطية أن الجزائر لا تمتلك سوقا للإنتاج طالما أن المنتج الوحيد هو الدولة، ومعظم الجمعيات و(الفرق الحرة) تعتمد على إعانات الدولة، وتوزع عروضها في فضاءات تابعة للدولة. ويقول: "حتى تكون هناك سوق للإنتاج، لا بد من نشوء مسارح خاصة، وتأسيس شركات تعنى بالإنتاج والتوزيع". ويؤيد عطية المنادين ب "إخراج الأعمال المسرحية المنتجة من دائرة المؤسسات الرسمية، وفسح المجال أمام المنتجين الخواص، لتأسيس سوق محلية للتوزيع والتسويق المسرحيين" . ويركز مدير مسرح سكيكدة الجهوي على أنه لا يمكن الإنتاج المسرحي أن يكون مربحا عدا بعض الاستثناءات، مشيرا إلى أن جودة العروض ليست دائما هي المعيار؛ تماما مثل الجهة المنتجة، والوجوه المشاركة والتوزيع، بل يخضع ذلك لاعتبارات أخرى. ويقترح عطية أن تقوم وزارة الثقافة والفنون بخطوات تساعد على توزيع العروض المسرحية؛ مثل إبرام شراكات مع وزارات التربية والتعليم العالي، والشباب، والدفاع، والداخلية، فضلا عن مجمعي "سوناطراك" و«سونلغاز"، إضافة إلى مجالس البلديات والولايات. ويتصور عطية أن تتولى عموم الفرق المسرحية تسيير سائر فضاءات الفرجة، وهو ما سيساعد، حسبه، على تشكيل معالم سوق ركحية مغايرة، مضيفًا: "يجب أن تكون العروض منتقاة ومراعية لخصوصيات الفضاءات المتعددة وجماهيرها" . كما ينادي بمتابعة مستمرة على كل المستويات من لدن لجان محلية، على أن تقوم وزارة الثقافة والفنون بدعم التوزيع لا الإنتاج، على أن تتولى لجان مؤهّلة تصنيف العروض إلى حين استحداث هيئات ومسارح حرة، تعمّق مسارات السوق الفنية المحلية مستقبلاً. الحاجة إلى مراجعة قانونية شاملة يشدد الفنان محمد إسلام عباس، على أن القطاع المسرحي في الجزائر بات بحاجة عاجلة إلى مراجعة شاملة لآلياته القانونية، معتبرا عدم معقولية استمرار تسيير المسارح بقانون عمره 54 عاما؛ لذا فمن الواجب استحداث دفتر شروط جديد، والاستعانة بخدمات خبراء التسويق، وتحفيز التعاونيات والفرق الحرة على التحول إلى مؤسسات ذات مسؤولية محدودة، بوسعها الاستفادة من الدعم المخصص للمؤسسات المصغرة. ويتصور مدير مسرح سوق أهراس الجهوي أن بعد استهلاك سنوات في الحديث بشكل محتشم عن حتمية التسويق المسرحي، لا بدّ من دفع الاستثمار المسرحي، والانتقال إلى محطة فكرية جادة، تجسّد الطور الجديد، وتضبط آليات التوزيع المسرحي في بلد شاسع بحجم الجزائر. ومن جانبه، يؤكد الدكتور مخلوف بوكروح أن دفتر الشروط الحالي يقيّد طريقة تسيير المسارح، ومن ثم يفرز كل الإشكالات المكبّلة لدعامتي التوزيع والتسويق. ويلفت إلى أن المواد الواردة فيه تحدّد المسرح كخدمة اجتماعية، وتحول دون استغلال الفضاء بطريقة تسمح بالحصول على الأموال، وعليه يقترح إعادة النظر في دفتر الشروط، خصوصا أن رجال الأعمال لا يمكنهم دعم الإنتاج المسرحي بدون عائدات مادية، مدرجا حتمية تحيين القانون المسيّر للمسرح، والمعايير التي من شأنها منح مديري المسارح هامشا أكبر من الصلاحيات، مع مراعاة راهن وأفق أيّ مسرح بموقعه الجغرافي. الانتقال الاقتصاديّ يقترح الدكتور يوسف مجكقان منح هامش أكبر للمؤسسات الاقتصادية الكبرى لدعم التوزيع والتسويق المسرحيين. ويذهب إلى أن ذلك ممكن عبر إقرار الحكومة تحفيزات جبائية أكثر سعة من ذي قبل، وشراء التلفزيون العمومي العروض الجيدة، على منوال ما كان حاصلا قبل عقود، وظل يمثل موردا هاما جدا، مشيرا: "يمكن المسرحيات أن تكون مربحة إذا اعتمدت آليات وخططا مدروسة، على أن تكون تُشفع بتوزيع منسق منظم ضمن قوانين جديدة، تكفل لكل ذي حق حقه". وينوّه مجكقان بأهمية أدوار المؤسسات الاقتصادية مسرحيا، مستدلا بدعم المجموعات الطاقوية الأوروبية للمشروعات الفنية في دولها. وهو نموذج يمكن مجمّعات محلية ناجحة في الجزائر، بلورته أكثر شريطة تغليب منطق "الجدوى الاقتصادية للأعمال" . وأوعز: "لا بدّ من ربط مجال الفن بالمفهوم الاقتصادي، وإخضاع النظام الوظيفي للمسرح للمنظور الاقتصادي؛ فالمسرح يستطيع تشغيل الآلاف، ويمكنه تحقيق قيمة مضافة إذا جرى الاحتكام إلى سياسة اقتصادية قارة وناجعة". ومن جهته، يشير أحمد خوصة مدير مسرح بسكرة الجهوي، إلى أنّ "التوزيع والتسويق هما الإشكالان الحقيقيان اللذين يتخبّط فيهما الإنتاج المسرحي؛ فلا يُعقل أن ننتج أعمالاً مسرحية لمؤسسات مسرحية وحتى لفرق وجمعيات حرة، ولا توزَّع بشكل مقبول! ". ويسجّل خوصة أن القضية ناجمة عن تداخل عدة عوامل؛ أهمها، أولاً، العروض المنتجة من طرف المؤسسات المسرحية؛ فهي تنتج في إطار إعانة الدولة مقابل الخدمة العمومية. وتتمثل في عدد من العروض المجانية في مسارح الدولة أو مؤسسات أخرى. وفي كثير من الأحيان لا تتعدى العشرين عرضاً. وهنا تجد المؤسسة نفسها مرتبطة بعقود مع الفنانين بفترة زمنية محددة. وفي كثير من الأحيان يُستعصى على المؤسسة تمديد العقود تبعا لارتباط الممثلين بأعمال أخرى. وهنا يكمن المشكل في أن الممثل من حقه أن يبحث عن أعمال أخرى، ولا يبقى مرتبطا بهيئة واحدة، ولأن المسرح يجد نفسه لا يستطيع الاستمرار في توزيع العمل لفترة طويلة. ثانياً، هيمنة العلاقات الخاصة كأساس في توزيع العروض؛ ما يضطر الفرق الحرة في كثير من الأحيان، لانتظار ما تدرّه المواسم؛ مثل شهر رمضان بالنسبة للكبار، والعطل للأطفال" . ويطالب خوصة باعتماد "برنامج مارشال مسرحي" ، يضمن سيرورة العروض لمدة لا تقلّ عن أربع سنوات، وهي المدّة التي تقوم فيها المسارح والتعاونيات وحتى الجمعيات، بإعداد نفسها لخوض غمار المنافسة التجارية. كما يلحّ على حاجة المسارح إلى إنشاء خلايا للتسويق يؤطرها متخصصون، فضلا عن إقرار سياسات جبائية تدفع المتعاملين الاقتصاديين للاستثمار في المسرح إنتاجاً وتوزيعاً وتسويقاً، ومن ثمّ استقطاب الجماهير. طرح الخصخصة يؤكد الباحث حبيب بوخليفة اقتناعه بأن "عود المسرح في الجزائر لن يستقيم إلاّ إذا اتجه إلى الخصخصة، واستغنى عن تمويلات الدولة"، مضيفاً: "أرى أنّ من أهم المشكلات التي تواجه إنتاجنا المسرحي، هي مشكلة التسويق، والإنتاج المسرحي باعتباره اقتصاداً يخضع للمخاطرة تبعا للطموحات والنوازع الإنسانية؛ فمن الطبيعي أن يتأثر ذلك الإنتاج بالتقلبات". ويقدّر الدكتور بوخليفة أن "العروض المسرحية رساميل منتجة، والجدوى لا تتحقّق بواسطة فن المسرح وحده، ولكن بمساعدة عناصر إنتاج متعدّدة". وفي هذا الصدد، يدرج الأموال وخطط التسويق وتدوير أرباح الإنتاج المسرحي إضافة إلى تحفيز الجمهور على ارتياد العروض المسرحية، بتقديم ما يتفاعل مع ثقافاتها، واهتماماتها الحياتية، وطموحاتها، وأساليب الترفيه عنها، والارتفاع بأذواقه، وتعديل سلوكها الجمعي، وتحريك ضمائرها في اتجاه إحسان الحياة المشتركة، مع تقديم كل جديد مدهش. ولا شك أن عودة ازدهار الإنتاج المسرحي في الجزائر، مشروطة بتفكير سليم وجاد في القادم". وفي خضمّ ما طُرح حول إشكاليتي التوزيع والتسويق في المسرح الجزائري، أضحى من الضروري إنضاج رؤى مبتكرة، تمنح الركح المحلي نفَساً جديداً. والأمر يتطلب إرادة سياسية، تحوّل السواكن إلى متحركات.