احتفى العدد الجديد 66 من مجلة "الثقافة الشعبية" البحرينية لصيف عام 2024، بالتراث الجزائري من خلال "الخصائص الفنية الملحمية للسيرة الشعبية الجزائرية" بقلم الأستاذة رتيبة حميود، إلى جانب مجموعة من الموضوعات المتعلّقة بمختلف مجالات التراث الشعبي وعلم الفولكلور، في مجالات الأدب الشعبي، والعادات والتقاليد، والموسيقى والأداء الحركي، والثقافة المادية، والتي تتطرّق لمختلف فضاءات الوطن العربي. قدّمت الأستاذة حميود مساهمة بعنوان "الخصائص الفنيّة الملحميّة للسّيرة الشّعبيّة الجزائريّة دراسة تحليليّة لسيرة الملك سيف التّيجان أنموذجا"، وأشارت إلى أنّ الأدب الشّعبي الجزائري تمكّن من وضع إبداعاته المختلفة في قوالبها الفنيّة اللّازمة، وكانت السّيرة الشّعبيّة الجزائريّة "سيف ملك التيجان" ملحمة قصصيّة بطوليّة تغنّت بحقبة تاريخيّة مرّت بها الجزائر، ووصفت البطل والبطولة في أسمى معانيها ورفعت الأحداث إلى مستوى أسطوري مزج بين الخوارق والخيال المبالغ فيه من جهة وبين الحقائق التاريخيّة المثبتة من جهة أخرى، قائلة "لقد أخذنا النّص إلى مرحلة من مراحل الحياة الاجتماعيّة التي عاشها الشّعب الجزائري وتغنّت بكلّ ما تميّزت به الثقافة الجزائرية إبان الصمود في وجه الأعداء المعتدين على أراضيها، وصّورت البطل الأسطوري سيف ملك التيجان بصفات أبطال الملاحم العالمية". إنّ هذه الدراسة التحليلية للقصة البطوليّة الملحمية "سيف ملك التيجان"، ربما تقود الباحثين في الميدان إلى الوقوف على دقائق التفاصيل، والخروج بزاد أوفر، على أمل أن يعثر على المزيد من الآثار القصصية التي تعكس بطولات المجتمع الجزائري وتشخّص هويته الثقافية الموغلة في القدم، وتكشف عن الثراء الذي يملكه هذا الوطن من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه. وأوضحت الباحثة أنّ فن السّير الشّعبيّة انتشر عند العرب وكان للجزائر حظ من ذلك الجنس الشّعبي عندما دخلت أراضيها قبائل بنو هلال التي هاجرت من شبه الجزيرة العربيّة في اتّجاه شمال إفريقيا جماعات جماعات ونقلت معها كل عاداتها وتقاليدها وتراثها الثّقافي الحافل وأخذت هذه الثّقافة الجديدة تنتشر بين الأجيال وتكفّلت الرواية الشّفويّة بنقلها عن طريق قصص البطولة الملحمية. وتهدف دراسة الأستاذة حميود إلى إبراز أنّ الأدب الشعبي الجزائري لا يقلّ أهميّة عن الإبداعات التي وجدت عند بقية الأمم والنّص الموجود بين أيدينا يدلّ على وجود الفن الملحمي مجسّدا في بطولة الملك سيف التيجان التي تخلّد بطولات أمّة. وتثري الإبداعات الوطنيّة التي تؤكّد مرور الحضارات الإنسانيّة الخالدة على هذه الأرض المشبّعة بثقافات غزيرة وإنتاجات ضخمة. مشيرة إلى أنّ قصص البطولة في السّير الشّعبيّة لم تكن حكرا على أمة دون أخرى، وكما أنتجت الشعوب بطولات تغنّت بها، كان للجزائر حظّ لا يستهان به، وقد استطاع الباحث الجزائري الدكتور شريف مريبعي أن يضع يده على مخطوطة في الغرب الجزائري تحتوي على سيرة شعبيّة مغاربيّة جزائرية، تروي حكاية البطل "سيف التيجان". لقد عثر الدكتور مريبعي، على مخطوطة في الغرب الجزائري تتضمّن أحداث ملحميّة لبطولات وقعت في حقبة تاريخية مرّت بها الجزائر، كانت تتميّز بمعارك ضدّ حملات غزو، قامت بها الجيوش الإسبانية المستعمرة كمحاولة للاستيلاء على أراضي الوطن، في منطقة الغرب ومن ثم استنزاف ثرواته وخيراته الكامنة، وهي عبارة عن ملحمة بطوليّة، تدور أحداثها حول الفروسية تحتوي على 15 قصة تروي حياة البطل في نسج أسطوري، حيث نجد بطل القصّة "سيف التيجان"، يتزوّج من جنيّة وتنجب له ابنه سعد السّعود، يخوض البطل فيها معارك متواليّة، ويحقّق انتصارات باهرة على أعدائه الذين يتميّزون بالكثرة والقوّة والشّجاعة وتتفرّع إلى قصص أخرى تسرد لنا الصّراع القائم بين أهالي المنطقة والأعداء، وتصف المعارك التي يخوضها البطل، ضد هؤلاء الكفار وعبدة الأوثان. وأوضحت صاحبة الدراسة أنّ هذه الأحداث، لا تختلف عن تلك التي تروي بطولات عنترة العبسي أو الظاهر بيبرس، أو سيف بن ذي يزن، أو غيرها من القصص البطولية الأخرى، فهي تتبع خطى الشخصية البطلة، وتنقل من خلالها طموحات ورغبات المجتمع الذي تنتمي إليه ممزوجة بالخوارق والخيال المبالغ فيه والذي لا يمكن تحقيقه في الواقع. وخلصت إلى أنّ السّيرة الشّعبية وهي تحكي بطولات الأبطال في ثنايا المعارك والصراعات القائمة تحمل في طياتها ما يهمّ المجتمع الذي تعبّر عنه وتحرص على أن تضمّ في ثناياها ما يخدم أغراضها من المعلومات والبيانات المفسّرة سواء أكانت تاريخيّة أم تتعلّق بالعادات والتّقاليد والمعتقدات الجمعيّة. لقد تمكّنت السّيرة الشّعبيّة "الملك سيف التيجان" من نقل القيم الاجتماعيّة والسّياسيّة للمجتمع الذي وجدت فيه، وجسّدت ثقافاته الضاربة في عمق الحضارة الإسلامية الأصيلة، فالبطل كان مسلما جزائريا رافضا لكل أشكال السيطرة الاستعمارية التي تهدف بالدرجة الأولى إلى القضاء على تلك الحضارة في المنطقة، وطمس الهويّة الوطنيّة، ومحو الشخصية الجزائرية بكل أبعادها الحضارية وزرع الكفر والشرك ودسّ المعتقدات الوثنية. وقد ذكرت السّيرة المصطلحات التي تحمل تلك الدلالات الغزو والكفار وعبادة الأوثان.