وجه رئيس الجمهورية، السيد عبد العزيز بوتفليقة، أول أمس الجمعة رسالة إلى المنتدى السابع لرؤساء الدول والحكومات حول الحكم في إفريقيا الذي جرت أشغاله بالعاصمة البوركينابية واغادوغو من 24 إلى 26 أكتوبر الجاري· فيما يلي النص الكامل للرسالة التي قرأها نيابة عن رئيس الجمهورية رئيس الحكومة السيد عبد العزيز بلخادم: سيدي الرئيس إن الموضوع المثار خلال هذه الدورة يكتسي أهمية كبرى بالنسبة للتنمية الداخلية لبلداننا ولاندماجها المتجانس في الاقتصاد الدولي ومن هنا يمكن ان يشكل أحد أهم التحديات التي تواجهها إفريقيا أكثر من أي منطقة أخرى في العالم· بالفعل فإذا كان السلام والأمن وحماية البيئة ومكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري وترقية التنمية المستديمة أو مكافحة الجريمة الكبرى والإرهاب تستوقف اليوم جميع البلدان فرادى وجماعات، فإن التحدي الذي يمثله الحكم الراشد يكتسي أهمية قصوى بالنسبة لقارتنا. فالحكم الراشد أضحى في عالم اليوم من أهم مكونات الدولة سواء من خلال ممارسته أو نجاعته· وأمام كثافة ونوعية احتياجات السكان وبروز فاعلين جدد على الساحة السياسية وكذلك الاجتماعية والاقتصادية فقد عادت الدولة ذاتها ودورها وقدرتها على التسيير الشامل للتنمية وتحويل المجتمعات لتصبح في قلب انشغالات المجتمع الدولي· لقد أظهرت إفريقيا أنها واعية بشكل كبير بهذه المتطلبات الجديدة حيث أن فلسفة وتصور الشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا (النيباد) تعد احد مظاهر هذا الوعي· كما أن إنشاء وتطبيق الآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء تعد مظهرا آخر من هذه المظاهر وفي السياق ذاته يعد تكثيف هذا النوع من اللقاءات على غرار منتدى رؤساء الدول من اجل الحكم الراشد وكذا إثراء الأفكار والبحث وتبادل الخبرات حول هذه المواضيع يساهم في هذا المجهود كما تستجيب هذه الأعمال والمبادرات لمدى كثافة الصعوبات التي تواجهها الدول الإفريقية في تسيير حركية التنمية والمشاكل المؤسساتية الكبرى التي تم الوقوف عليها· كما أن شروع السواد الأعظم من الدول الإفريقية في إصلاحات سياسية واقتصادية ومؤسساتية عميقة يستجيب إلى هذه المتطلبات الجديدة· إن هذه الإصلاحات يتم تسييرها في سياق بيئة دولية جد معادية، تتميز بتراجع المساعدات العمومية من اجل التنمية واستمرار اختلالات الأسواق المالية الدولية وتلك الخاصة بالتجارة الدولية علاوة على ندرة الاستثمارات الأجنبية المباشرة· وعلى الرغم من هذه العوائق الكبرى فإن النتائج الأولية للإصلاحات الهيكلية التي تمت مباشرتها في إفريقيا كانت جد مشجعة في مجملها وتبعث على التفاؤل فيما يخص مستقبل القارة· ومن ثمة وعلى المستوى السياسي أحرزت الديمقراطية أشواطا وتقلص عدد النزاعات وتعززت دولة القانون مثلما فرضت حماية وترقية حقوق الإنسان نفسها كمعيار أساسي للحكم· هذا وأصبح اللجوء إلى الاقتراع بشكل دوري ورفض الوصول إلى السلطة من خلال طرق غير دستورية قاعدة شاملة لا يجوز التجني عليها أما المحاسبة فأضحت أكثر من أي وقت مضى لا مفر منها، ناهيك عن تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين التي أصبحت من الانشغالات الهامة المتضمنة في سياسات واستراتيجيات التنمية على المدى الطويل· وإن القيام بمقارنة سريعة بين هذه الأشواط التي تم قطعها وبين واقع قارتنا إذا ما رجعنا عشر سنوات خلت إلى الوراء لكفيل بإبراز مدى أهمية هذا التقدم المحقق والمشوار الذي تم قطعه لحد الآن· كذلك الشأن على الصعيد الاقتصادي ذلك أن متوسط نسبة النمو المطرد والإيجابي الذي يقدر بحوالي 5 بالمائة وأكثر من ذلك بالنسبة لعدد متزايد من الدول الإفريقية ليس من دون شك من قبيل الصدفة بل هو مؤشر لمدى صواب الخيارات التي تم القيام بها ونجاعة الإجراءات المتخذة من قبل بلداننا· وتبقى التحديات التي ينبغي رفعها عديدة وملحة كما أن حجمها يؤثر بشكل ملموس على التقدم المحقق· ذلك أن الفقر وأوبئة السيدا والسل والملاريا إضافة إلى آفة المجاعة تعد من المشاكل القائمة إلى يومنا هذا· كذلك الشأن بالنسبة للتأخير المسجل في مجال تعميم التربية وأنظمة عمومية ناجعة في مجال الصحة أو القضاء على البطالة· ويدل ارتفاع تدفق الهجرة بداخل القارة وبشكل متزايد خارجها على أن قائمة التحديات لا زالت طويلة· ومن نافلة القول التأكيد على أن قارة إفريقية آمنة ومزدهرة تعد مصدرا للاستقرار والثروة بالنسبة لشعوبها بل لشركائها الاقتصاديين والمجتمع الدولي برمته· سيدي الرئيس في هذا المنظور بالذات تندرج أعمالنا وكذا الأهمية التي ينبغي إيلاؤها للمسألة الجوهرية للحكم وبشكل أعم دور الدولة والفاعلين الآخرين غير الحكوميين في الحركية التنموية وتلبية حاجيات شعوبنا· ولقد أدرجنا في الجزائر كافة الإصلاحات السياسية والمؤسساتية التي انتهجناها منذ عدة سنوات في إطار هذا المنظور المجدد· ويكمن تطلعنا في التوصل إلى إيجاد بيئة سياسية ومؤسساتية قادرة على تعبئة وتوجيه وإفادة البلاد والشعب بكافة الموارد وكافة الكفاءات وكل ما يزخر به الوطن من طاقات إبداعية· ونعكف من هذا المنطلق على تعزيز دولة تركز جهودها حول الممارسة الحقيقية لصلاحياتها في مجال التحكيم والضبط بحيث تنسحب من فضاءات الإنتاج وتضمن ترقية الرأسمال البشري والمنشآت القاعدية وضمان شروط الشفافية والحركية لفائدة الاستثمارات الوطنية والأجنبية وضمان الأمن الغذائي علاوة على حماية البيئة· كما تسهر على ضمان السير الحسن للسوق وتحفز روح المبادرة· وترمي الإصلاحات المنتهجة إلى السماح للدولة بعصرنة تنظيم الخدمات العمومية وترشيد تسييرها وتعزيز سلطات مراقبة الإدارة وتوجيه وتأطير السياسة التنموية والسهر على ضمان الانسجام الاجتماعي ولا سيما من خلال مكافحة الآفات الاجتماعية وترقية العدالة الاجتماعية· وبفضل سياستي الوئام المدني والمصالحة الوطنية اللتين باركهما الشعب الجزائري في سنتي 1999 و2005 واللتين تم تجسيدهما بدافع السماح لكافة الجزائريين دون استثناء بأن يشاركوا في خدمة بلدهم وشعبهم جددت الجزائر العهد بالاستقرار وتمكنت من خلال استثمار مواردها الأساسية في سبيل تعزيز الديمقراطية الفتية في إنعاش تنميتها الاجتماعية والاقتصادية· كما هدفت جهودنا إلى تحسين سير المؤسسات الوطنية وترقية ممارسة الحريات العمومية وترشيد قاعدة تمثيل المواطنة وتعزيز ثقة المواطنين في المجالس المنتخبة وفي الهبة الديمقراطية التي تمثلها ولضمان احترام العهدات الانتخابية· ثم إن جهودنا تركزت أيضا حول عصرنة المؤسسة القضائية وتعزيز الشفافية في التسيير العمومي وتوزيع أمثل للأدوار والمسؤوليات بين الإدارة المركزية والمحلية، فضلا عن تكييف القوانين الأساسية للوظيف العمومي من أجل ضمان نجاعة أكبر وتعميق إصلاح المنظومة التربوية وإيلاء الأولوية للتكوين وتحسين الكفاءات المهنية في كافة القطاعات· كما شجعنا على بروز مجتمع مدني قادر على أن يفرض نفسه بمثابة قوة اقتراح وعلى أن يكون خزانا للكفاءات مثلما شجعنا الحوار والتشاور مع الشركاء الاجتماعيين بما يكفل إشراكهم بشكل كامل في البناء وفي التطبيق وفي الحفاظ على التوافقات الاجتماعية التي لا مناص منها في تجسيد السياسات والبرامج الوطنية والتنموية· وقد تعززت كل هذه الإجراءات بجهود تهدف إلى إضفاء الاحترافية على المؤسسات والرجال وعصرنة المناهج والإجراءات الإدارية· وقد مست هذه الجهود الإدارات المركزية كما تم توسيعها أيضا إلى الجماعات المحلية التي تلعب دورا محوريا في إعادة بعث الثقة بين الدولة والمواطن وفي نوعية الخدمات العمومية التي تقدم لهذا الأخير· وقد تمحورت هذه الجهود حول تكوين الكفاءات التأطيرية لهذه المؤسسات على كافة مستويات المسؤولية وحول عصرنة مناهج ووسائل تدخلهم لاسيما من خلال تخصيص ميزانيات برامج طويلة المدى ومراجعة المنظومة الضريبية المحلية· سيدي الرئيس لا يوجد نموذج موحد للحكم الراشد· ذلك أن مسارات إعادة بناء الدولة ودورها وعلاقتها مع المواطنين إلى جانب مسارات إعادة التأسيس الخاصة بالشركاء الاجتماعيين على غرار المجتمع المدني والنقابات والوسطاء والقطاع الخاص التي تحتل مكانة أكثر فأكثر أهمية ينبغي أن تنبع من القيم والانشغالات الوطنية، وأن تستلهم في الوقت ذاته من الممارسات الجيدة ومن المعايير والتجارب الدولية المكرسة· إن النماذج التي تم صياغتها واستيرادها أو تلك التي طالما فرضت من الخارج، سيما من قبل البلدان المانحة قد أخفقت كلها إخفاقا ذريعا ذلك أنها تفتقد لأسس متينة في المجتمعات المعنية· لقد باشر بلدي على غرار بعض البلدان الإفريقية الأخرى بما فيها رواندا الممثلة اليوم من قبل أخي وصديقي الرئيس بول كاغامي عملية تقييم ذاتي في مجال الحكم الراشد في إطار الآلية الإفريقية للتقييم من طرف النظراء، حيث استقبل بارتياح مراجعة هذا التقييم من قبل النظراء في شهر جوان الفارط بآكرا· لا أود التطرق مجددا إلى الأهمية التي نوليها لهذه العملية ولا للفائدة التي ننتظرها منها من وجهة نظر مسعانا الخاص في مجال تحسين الحكم· بيد أنني أود فحسب الإشارة إلى أن هذا التقييم وبالنظر إلى ما اتسم به من شمولية وتساهمية واتساع إلى كافة ميادين الحكم التي يغطيها استبيان الآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء، قد سمح لنا بأن نلم تمام الإلمام بواقعنا وبنقاط قوتنا مثلما سمح لنا بالوقوف على ما ينبغي القيام به من جهود في كل قطاع من القطاعات المقيمة· ومن أجل إثراء حوارنا اليوم، أود التأكيد فيما يخص الجزائر مثلما هو الحال بالنسبة للدول الأخرى التي خضعت لتقييم النظراء، بأن ضعف قدرات تدخل الدولة تبين أنه مقصد ينبغي أن تولى له عناية كبرى· وهذا ما يزيد في قناعتي بأنه من الأهمية بمكان أن توجه الجهود، جهودنا أولا وجهود الشركاء التنمويين للقارة نحو استحداث برامج مؤسساتية تنموية هامة في إفريقيا.