أمضيت ساعات طويلة أتأمل لوحات سلفادور دالي على صفحات الإنترنت، وخلصت في آخر المطاف إلى التساؤل التالي: كيف ينتقل إنسان من حالة العقل إلى حالة اللاعقل؟ وسبق لي أن قرأت يومياته باللغة الفرنسية قبل وقت طويل، فأعجبت بأسلوبه في الكتابة، لكنني أصبت بالقرف حيال المواضيع التي تطرق إليها. لم ينج من قلمه شيء، ولا أمعاؤه نفسها. ولم يسلم العقل من شطحاته، بل إنه زعم أنه أعظم عبقري في هذه الدنيا، وهذا كلام لا يقوله لا جاهل ولا عاقل ولا حتى من أصيب بالجنون كلية. صفحات الإنترنت جمعت العديد من لوحاته مرتبة مؤرخة فجاءت لتكشف عن التطور الذي حدث في عقله وفي وجدانه وفي سلوكه. وأقصد بالتطور في هذا المقام الطفرات التي تميزت بها حياته. فقد بدأ إبداعه الفني التشكيلي كلاسيكيا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. رسم البحر والمرأة والأشجار والطبيعة الميتة وما إليها من عناصر الحياة وظواهرها. وكان في لوحاته هذه قريبا من الإنطباعيين الفرنسيين الذين تميزت بهم أخريات القرن التاسع عشر، وقريبا في الوقت نفسه من (بول جوجانPaul Gauguin) صاحب التشكيلات اللونية العريضة والمواضيع الذي تخرج عن ما هو معهود في الفن التشكيلي الأوربي، بالإضافة إلى ما لمسته في لوحاته من تأثير كل من (بول سيزانPaul Cézane) و (دورانDerain) و(تولوز لوتريكToulouse Lautrec). ثم جاءت المرحلة الثانية من إنجازاته التشكيلية، فراح يبتعد شيئا فشيئا عن مواضيع الحياة اليومية والطبيعية، لكنه ما أسرع أن قفز قفزة في الهواء، وجعل يعالج مواضيع تجمع بين ما هو واقعي وسياسي، غير أن المقام لم يستقر به في هذه المرحلة، بل جاز إلى مرحلة السريالية التي صارت أساسا لفنه التشكيلي كله. وهنا يكمن جنون سلفادور دالي، أو عبقريته على حد ما يقول به خبراء الفنون التشكيلية. والرأي عندي هو أنه أراد أن يقول باللون ما كان من الواجب أن يقوله بالقلم، أي بالكتابة. لوحاته في مرحلة السريالية تنطوي على الكثير من المواضيع النفسية حتى إنه في مقدور المتفرج عليها أن يقرأها على هواه. فالمحلل النفساني قد يجد فيها تجسيدا لبعض المشاكل التي يعانيها هذا الذي اضطربت أعماقه النفسية أو تلك التي لم تقو على مواجهة الحياة. غير أن ما لم أستسغه في لوحاته هذه إنما هو ذلك التوغل في تخوم لم يتقبلها عقلي، ولا ذائقتي الفنية. وقد يعود ذلك إلى أنني أنتمي إلى صقع حضاري بعيد البعد كله عن تأثير الفنون التشكيلية بمعناه الغربي وعن المواضيع النفسية بمعناها الغربي أيضا. قد أتقبل ما جاء به سوفوكليس قبل خمسة وعشرين قرنا من الزمان في تراجيدياته، وعلى رأسها (أوديب)، لكن، أن تحدث الطفرة من العقل إلى اللاعقل، فذلك شيء يصعب علي فهمه أو تذوقه. ذلك من حقي كإنسان يحب الفنون التشكيلية، وما زال مؤمنا بأن اللون ينبغي اختياره وتوظيفه لغايات جمالية محددة في المقام الأول. وعليه، حين سألني أحد الأصدقاء عن سلفادور دالي، أجبته بأنني لا أفهمه ولا أتذوقه. ولم يتغير رأيي هذا منذ أن قرأت مذكراته قبل خمسة وعشرين عاما. فالمهم في نظري إنما هو العقل، وكيف أوظفه في حياتي.