الكلمة التالية ألقيتها في اللقاء الأدبي الذي انعقد يومي 15 و16 فبراير 2006 في دار الثقافة بولاية بومرداس لبحث موضوع الموروث الشعبي في الرواية الجزائرية. وكان لا بد من الحديث عن الروائي رشيد ميموني، ابن تلك الولاية المضيافة الجميلة. لكم يشق علي أن أستعيد ذكرى الزميلين رشيد ميموني والطاهر جاووت، إذ لا بد من أن أربط بينهما في هذا المقام. فلقد شاءت الأقدار أن يكون آخر لقاء بين ثلاثتنا في صبيحة 16 ماي من عام 1993 في أروقة وزارة الثقافة. كنا مدعوين لحضور جلسات لجنة قراءة السيناريوهات التي يرأسها ميموني، وجئت خصيصا للإعتذار عن عدم قدرتي على المشاركة في أشغال اللجنة التي كانت تضم لفيفا من أهل السينما والأدب. وكان لا بد لي أن أنتهز فرصة ذلك اللقاء لكي أتبادل بعض الخواطر الخاطفة مع الطاهر جاووت عن الشاعر الفرنسي بول كلوديل، وعن جملته الشعرية ذات النفس الطويل التي لا قرين لها في الشعر الفرنسي إلا تلك التي تميز بها الشاعر سان جون بيرس، مع اختلاف بين بينهما. وكان الطاهر جاووت معجبا هو الآخر بأسلوب بول كلوديل من حيث السبك اللغوي. ابتسم وقال لي: هذا الموضوع يتطلب قعدة طويلة، يا سي مرزاق! وكنت قبلها بأيام قد تساءلت مع كل من رشيد ميموني والطاهر جاووت وعدد من أعضاء لجنة قراءة السيناريوهات عن مقدرة المخرج عبد الرحمن بوقرموح الفنية، وعن الطريق التي ينبغي أن ينتهجها في إخراج رواية (الربوة المنسية) لمولود معمري بعد أن وافقت لجنتنا على السيناريو. أجل، تساءلنا جميعا عن الجانب الشعري في رواية مولود معمري، وكيف ينبغي تجسيده بالكاميرا، خاصة المدخل الذي يصور فيه الروائي الكبير خضرة الربيع في منطقة القبائل ويربط فيما بينها وبين ربيع الفتيات اللواتي هن على وشك الزواج. وغاب الاثنان في أروقة وزارة الثقافة، أو غيبتهما الأروقة، بينما اتخذت طريقي أنا لكي ألتحق بالمجلس الاستشاري الوطني والجزائر تواجه يومها لعنة التطرف والمتطرفين. وهكذا ودعت الزميلين وبسمة كل واحد منهما تستقر قبالتي وما تزال إلى حد الآن. فلا الأول كان يعرف ما ينتظره، ولا الثاني ما كان يدري شيئا عن الحزن العميق الذي قد يوغل في تضاعيفه. وبعد عشرة أيام من ذلك اللقاء، أي في يوم 26 ماي، جاء من يختطف روح الطاهر جاووت. فقد وجهت له رصاصات غادرة بالقرب من داره وهو يهم بصعود سيارته لشراء أضحية العيد، والبقية تعرفونها. وأحسب أن وطأة الحزن ستظل تثقل على وجداني على الدوام كلما استذكرت كلا من الطاهر جاووت ورشيد ميموني. الأول انسفح دمه بعد أن وصمه الكفرة الفجرة الفسفة بتهمة الإلحاد والشيوعية وهو الذي شارك بقسط وافر في بناء مسجد القرية التي ينتمي إليها بالقرب من مدينة أزفون. أما الثاني، فقد مات غما وكمدا، إذ أن الحياة لم تمض به أكثر من ثلاثة أعوام لينتقل إلى رحمة الله في مطالع عام 1996 . لم أرغب في مشاهدة جسد الطاهر جاووت وهو مسجى في مستشفى (باينام) ذلك أنني ظللت مؤملا أن تمتد به الحياة. وأذكر أن زميلنا الروائي الراحل عبد الحميد بن هدوقة قال لي بعد أن عاد من المستشفى: Il a une chance sur un milliard!. أحسب أنني كنت في موقفي ذاك شبيها بالشاعر فدريكو غارسيا لوركا الذي امتنع عن مشاهدة صديقه المصارع الفنان (أنطونيو ميخياس)، ذلك الذي عاد إلى مصارعة الثيران بعد أن طعن في السن وبعد أن نصحه الأصدقاء، ومن بينهم لوركا، بعدم الدخول إلى الحلبة مرة ثانية. رددت بيني وبين نفسي ما قاله في قصيدته الرائعة مرثية أنطونيو ميخياس: لا، لا أريد أن أراه. وبالفعل، فأنا لم أنظر إلى الطاهر جاووت في تلك اللحظات وهو يصارع الموت، ولذلك فهو ما زال حيا في وجداني، كما أن الزميل ميموني ما زال حيا هو الآخر في أعمق أعماق روحي.