إن ظاهرة التزوير في المجتمع والتي تعكس أحد أوجه الفساد، تزدهر مع انتشار ظاهرة الرشوة والمستفيدين من ممارستها.. وهذه الآفة المستفحلة تترك آثارا اقتصادية واجتماعية خطيرة ما لم يجر الوقوف على مسبباتها، والإسراع في وضع الحلول والخطط لمعالجتها تبعا لتأكيدات بعض رجال القانون الذين اتفقوا على أن أداء القانون لدوره الأساسي في حل ما يواجه المجتمع من ظواهر وممارسات، مرهون بتطوير الخبرات العلمية وإعادة هيكلة النظام الذي تقوم عليه الدولة من طرف مختصين لمواكبة التطورات الحاصلة في عالم الجريمة في زمن المعلوماتية. تعرف ظاهرة التزوير على أنها تغيير للحقيقة بقصد الاحتيال والغش بإحدى الطرق المادية والمعنوية التي يحاسب عليها القانون، لأنها تحدث ضررا بالمصلحة العامة. وعلى ضوء المعلومات المستقاة من أهل القانون فإن هناك الكثير من مظاهر التزوير في المجتمع الجزائري مست مختلف المجالات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، حيث طالت الأوراق التجارية، السندات، الوثائق الرسمية والإدارية، النقود، جوازات السفر، التأشيرات، الشهادات العلمية، وثائق الملكية، تزوير المراحل العمرية، عقود المقاولات، وثائق الجمعيات الخيرية ووثائق الانتخابات.. وما إلى ذلك. هذه الظاهرة طالت مرافق كثيرة من مرافق الدولة والمجتمع، باعتبار أنها دخلت تقريبا إلى كل مؤسسات المجتمع العمومية والخاصة وإلى مختلف الإدارات والبنوك، وكذا الجامعات، وبالتالي مس نصيب كبير من تزوير الشهادات العلمية.. وهذه الحقائق برأي بعض رجال القانون الذين استجوبتهم "المساء" تجزم أن التزوير تحول إلى عرف مقبول في المجتمع.. ومن هنا تأتي خطورة انتشار ظاهرة التزوير، فهذا السلوك الإجرامي المتشكل عبر السنوات ترسخ مع مرور الوقت بشكل مخيف في المجتمع. والملفت في المسألة تبعا لتصريحات أهل الاختصاص هو تطور وسائل التزوير من الطرق البدائية إلى استخدام الكمبيوتر وبرامجه المتطورة التي تمكن من استنساخ وطبع مختلف الوثائق بدرجة عالية من الدقة، والجدير بالقول أيضا هو أن أسواق التزوير تتخذ أشكالا من العمل يصعب تحديدها بسهولة، وتعمل في أماكن عديدة وتحت مسميات مختلفة، كشركات تجارية وسياحية وهمية وهناك طلب كبير عليها. ووفقا لملاحظات بعض المحامين فإن ظاهرة التزوير من الأخطار الكبيرة التي انتشرت لتشمل كل مناحي الحياة وتعددت أساليبها وأشكالها ووصلت إلى درجة أن تمارس الغش والتزوير كتل سياسية وأحزاب لتحقيق انتصار ما في حملة انتخابية، أو إيصال مرشح ما لعضوية مجلس محلي أو برلماني، وهذه الظاهرة يجب الوقوف عندها لدى التفكير في مكافحة الفساد. ومن الرشوة ما قتل! تقول الصحفية "زهرة دريش في الموضوع وهي متخصصة في تغطية قضايا المحاكم، أن التزوير الذي يعاقب عليه القانون من الجرائم التي تدخل في سجل مقترفيها - معظمهم من فئة الشباب - لغرض تحقيق أطماع مادية بالدرجة الأولى لكونه مرتبطا بالرشوة في العديد من الأحيان ويستهدف المحررات الإدارية والوثائق الرسمية في الغالب.. وفي المحاكم قضايا لا تحصى من هذا النوع يقف وراء اقترافها المصلحة المادية بالنسبة لكلّ من الراشي والمرتشي.. أما الأفظع من ذلك هو أن يلجأ الفرد إلى القتل من أجل الحصول على المبلغ اللازم للحصول على الوثائق المزورة، وهو ما تعكسه وقائع قضية جرت بالعاصمة مؤخرا، المتهم فيها شاب قتل شابا آخر بنية توفير المال للحصول على أوراق مزورة تساعد والده على الحصول على نصيب من الإرث ليؤول إليه لاحقا. ويقول المحامي خالد بن ديبة "إن التزوير حلقة من الحلقات الخاصة بالجريمة التي توغلت في كل مناحي الحياة، وهي وجه من أوجه الفساد المتفشي في المجتمع.. وربما نشير هنا إلى أن ظاهرة التزوير لم تصاحب حالات العوز المادي والفقر والحاجة لفرصة عمل فقط، فهذه الآفة تمارسها شرائح عدة في المجتمع بدءا بالمواطن البسيط الذي يزوّر الشهادات المدرسية للحصول على منصب عمل أو للاستفادة من تكوين معين، وانتهاء ببعض المترشحين الذين يمارسون التزوير في الانتخابات." ففي الواقع كل جريمة لها غاية معينة وغاية التزوير هي الحصول على حق بالباطل من خلال استعمال الطرق غير الشرعية، ذلك أن خاصية التزوير تكمن في تغيير واقعة أو نسب واقعة مغايرة للحقيقة، ولا ينكشف فعل التزوير إلا من خلال إستعمال العملة أو الوثائق المزورة. ويوضح الخبير الحقوقي خالد بن ديبة أن أشكال التزوير في الجانب الاجتماعي يتجلى من خلال تغيير الصفة (الحالة المدنية) أو تغيير بعض المعطيات كتلك المتعلقة بالاسم واللقب.. ويكمن الغرض من ذلك بالنسبة لبعض المتابعين بأحكام جزائية في الإفلات من عقوبات العدالة. وعموما بلغت خطورة التزوير إلى حد تزوير بعض الأحكام القانونية، وفي ذلك ضرب بسيادة القانون عرض الحائط. التطور التكنولوجي صعّب إثبات التزوير وقد اتسعت صور وأساليب التزوير لتتكامل بدخول المرتشين من مختلف الدوائر لتحصل على آخر ما تقوم به الدولة من تغيرات في الوثائق والعملات والجوازات ومختلف الوثائق الرسمية التي تتعلق بالمواطن، فالرشوة كرست استفحال هذه الظاهرة، والتطور التكنولوجي من ناحية أخرى صعّب كثيرا مهمة إثبات التزوير جراء ارتقاء أساليبه من الورقة إلى المعلوماتية، فكلما تطورت أساليب جرائم التزوير ازدادت صعوبة إثبات فعل التزوير، وينطبق الأمر بصفة خاصة على بعض جرائم الأنترنت التي مازالت غير معروفة لكوننا حديثي العهد في استعمال هذه الوسيلة الاتصالية، ما يفسر سبب تفشي التزوير في البلدان السائرة في طريق النمو. وردا عن السؤال: هل يعني تفشي التزوير في المجتمع الجزائري أن القانون عاجز عن كبح جماح الظاهرة؟ أجاب المختص القانوني بأن مكافحة الظاهرة وإثبات فعل التزوير أصبح يتطلب خبرات علمية، لاسيما عندما يتعلق الأمر بتزوير النقود، أختام الدولة، الطوابع الرسمية وأختام السفارات، فبإمكان القانون أن يواجه الظاهرة شرط أن يسود التنسيق بين الهيئات القضائية والإدارية، وهو ما يعني رقابة سابقة ولاحقة للإجراء الإداري، "فالعمل الدقيق برأيي مرهون بتكوين عالي المستوى في كشف جرائم التزوير والتحقيق فيها"، يؤكد الأستاذ. لا يمكن بناء دولة القانون في وجود التزوير وتوضح محامية أخرى طلبت عدم ذكر اسمها أن النصيب الأكبر من عمليات التزوير يمس مجال الشهادات العلمية والغرض الرئيسي من تزويرها هو الحصول على فرصة عمل أو الترقية في الوظيفة، وهو ميدان استراتيجي وحساس، مما يؤثر سلبا على اقتصاد الدولة وعلاقاتها مع الدول الأخرى، ومن الأمثلة على ذلك قضية جامعة الجزائر التي مثل من خلالها أمام العدالة أزيد من 80 متهما بسبب تزوير شهادات مدرسية خاصة بجامعة التكوين المتواصل، وهي القضية التي لم تنكشف خيوطها إلا بعد مرور عدة سنوات، حيث تورط فيها طلبة هم الآن إطارات. هذه الآفة التي يمارسها المتعلم وغير المتعلم، المواطن البسيط وصاحب المركز المرموق تتفشى في الدول المتخلفة أكثر منه في الدول المتقدمة، وفي ذلك إشارة إلى أن التخلف يفتح المجال أمام البعض للجوء إلى هذا النوع من الطرق الاحتيالية للحصول على بعض الخدمات بسهولة. وحسب المتحدثة فإن جريمة التزوير التي تنطوي على النصب والاحتيال وجدت في الرشوة ركيزة أساسية تدعم تغلغلها، لأن الهدف الرئيسي الذي يؤدي غالبا إلى التزوير هو الرشوة التي تعتبر نقطة وصل بين المزور والوثيقة المزورة.. ونلاحظ في هذا السياق أن بعض الموظفين في البلديات على سبيل المثال أصبحوا يقبلون بتزوير شهادة مدرسية أو شهادة إقامة مقابل مبلغ ضئيل، رغم علمهم بأن الأمر قد يكلفهم عقوبة الحبس. "ورغم أن انتشار ظاهرة التزوير أدى إلى إنشاء محكمة خاصة هي محكمة الأقطاب التي تضم قضاة متكونين لمكافحة الفساد الواقع في المجتمع، منها الجرائم الكبرى الواقعة في التزوير، لكن هذا النظام لوحده لا يكفي" تقول الخبيرة الحقوقية.. وتتابع "التزوير لا يتعلق بالجريمة فقط بل بالنظام الذي تسير فيه الدولة الجزائرية، ولهذا فإن مكافحته مرهونة بإعادة هيكلة النظام الذي تقوم عليه الدولة من جديد من طرف مختصين لإيجاد حلول وبوضع آليات واستراتيجيات جديدة في المجال القانوني، تسهر عليها هيئات مختصة بالتنسيق مع عدة قطاعات، فضلا عن وضع اتفاقيات جماعية ودولية مع الدول الأخرى، لأنه لا يمكن بناء دولة القانون في ظل هذه الجرائم، لا سيما وأنها تمس أمن وإستراتيجية الدولة وعلاقاتها بالدول الأخرى".