كنا قد أشرنا في الحلقة الفارطة إلى متاعب الجمهور الجزائري أثناء الرحلات المكوكية التي قادته إلى مدن بولوكوان وبلومفنتين كمحطة عبور إلى كيب تاون، وأشرنا إلى بعض النقائص التي سجلت عبر كل المسارات التي قطعتها قوافل الأنصار، وفي هذه الحلقة نتطرق إلى المحطة الأخيرة من يوميات مونديال الجمهور الجزائري في بريتوريا على وجه الخصوص، إذ في هذه المدينة طغت أحلام التأهل على سلوك وتصرفات الجمهور، فعاش ليلة بيضاء عشية مباراة الجزائر - الولاياتالمتحدةالأمريكية. ... كما أن السواد الأعظم منه كان حريصا على متابعة اخبار افراح الوطن وكيف يجهز جمهور الداخل للتأهل إذا حدث، ونادرا ما تجد من يحدث عن غير التأهل، بمن فيهم أولئك الذين كان التشاؤم يغذي حواراتهم الهامشية، واختفت الأصوات المنتقدة للمدرب الوطني رابح سعدان، الذي تحول في ظل نشوة الابتهاج بالتعادل الذي احرزه المنتخب الوطني امام انكلترا إلى بطل قومي في نظر هؤلاء...
حضرت كل الألوان واشتمت رائحة ''إيليو'' في كل مكان
وجاء يوم المباراة وانتقل الآلاف من الجزائريين إلى ملعب تيشوان، وأثناء الطريق كنا نلاحظ فسيفساء من الانصار، إلى درجة ان هناك من حمل اقمصة ''إيليو'' و''صافيا'' وفيهم من حمل شعار ''الجزيرة'' أو غيرها من المؤسسات التي تكفلت بإرسال الأنصار على حسابها في اطار الترويج لنفسها، لكنها مع الأسف اخطأت في تقديرها، عندما جاءت ببعض المراهقين وحتى ببعض الكهول الذين لا احد يدري كيف تم اختيارهم، إلى درجة ان فيهم من تاه وفيهم من اصبح عالة على البعثة، وفيهم من لم يكن يملك مصروف جيبه على الإطلاق، ومثل هذه الحالة خلقت في الواقع وضعا شاذا، لأن تصرفات بعض المراهقين ممن جاؤوا من هذه المؤسسات الخاصة والاجنبية ايضا، قد انعكست سلبا في كيب تاون قبل بريتوريا، كما تسببت في بعض الفوضى.. ومن حسن الحظ كان افراد سفارتنا في بريتوريا في الموعد لتطويق أي مشكل او طارئ. ومر نهار المباراة بدون مشاكل تذكر، واتجهت كل الانظار إلى ملعب تيشوان الذي اختلط فيه الجزائري بالامريكي والجنوب افريقي، وجاء بعض العرب وحملوا رايات بلدانهم إلى جانب العلم الجزائري، وعاش الكل في وئام، لأن حماس اللقاء و روح المنافسة و رغبة الفوز أنست الجميع القيام بأي تصرف مشين او يسيء إلى سمعة الجزائر. وربما لا استطيع وصف شعور كل الجزائريين كيف كانوا يعيشون مراحل المواجهة وكيف انفعلوا مع لقطة جبور التي ارتطمت بالعارضة وكيف تحسروا على ضياع فرصة صايفي، وربما لم يقل الكثير منهم لماذا ادخل سعدان اللاعب غزال و لماذا ابقى على بودبوز فوق كرسي الاحتياط؟ الأكيد أن الكل تناسى في تلك اللحظات طرح مثل هذه التساؤلات، ولم يتفطن كل هؤلاء إلا على وقع هدف الولاياتالمتحدة في الدقيقة الثانية من الوقت المحسوب او الضائع كما يقال، ومن حسن الحظ ان مرحلة الشد العصبي مرت بسلام، لأن الجماهير الجزائرية ادركت ان الحظ لعب لعبته وان الكرة ربح وخسارة وان المنتخب الوطني ادى ما عليه وتلك هي حدوده.
امبولحي وصايفي يغطيان على الهزيمة
انصرفت الجماهير في هدوء وغطى تألق الحارس امبولحي على الإخفاق، وذاع خبر المناوشة التي تمت بين صايفي وإحدى الصحافيات الجزائريات بسرعة البرق في اوساط الجماهير، وشاع بينهم أن سعدان استقال، في حين اتجهت الكثير من الانظار إلى الوطن لمعرفة اجواء ما بعد المباراة... وانصرفت قلة من الجماهير إلى ممارسة طقوسها في الحانات ومراقص اللهو والفجور، وحدثت بعض المناوشات والحوادث المعزولة بين بعض الجزائريين من هذه الفئة وبعض نظرائهم من ابناء حي هيلفيلد عند مخرج احدى الحانات، لكن دون ان تتسبب في اضرار جسيمة، لأن البوليس المحلي كان يراقب الوضع عن كثب، ونجح في تشتيت الخصوم... أما داخل الإقامات فقد كانت النقاشات هادئة إلى أبعد الحدود، وربما تكون عودتنا المتأخرة من مركز الصحافة قد فوتت علينا الكثير من الأشياء تكون قد حدثت او غطت على بعض التصرفات التي لم نسمع عنها إلا بعد صباح اليوم الموالي، حيث قيل لنا ان هناك من سرقت منه بعض الاشياء الثمينة وان البعض اعتدي عليه من قبل بعض زملائه نتيجة نقاشات معينة. في اليوم الموالي، أي الخميس 24 جوان، شرع الكل في تجهيز نفسه للعودة وانصرف الكثير منهم إلى الاسواق القريبة لشراء ما يحتاجونه من مقتنيات وهدايا، ومر اليوم سريعا، لكن ما كان ينتظر الدفعة الاولى من الأنصار ربما لم يكن يخطر ببال أي عائد منها.
تحضير العودة.. متاعبه لا تنسى
في هذا اليوم علقت على جدران اقامة '' ايريكا'' اسماء الدفعة الاولى من العائدين وطلب منهم اخلاء الغرف في حدود الساعة الرابعة مساء، مع التواجد امام الإقامة على الساعة التاسعة ليلا لنقلهم على متن حافلات إلى مطار جوهانسبورغ، ليكونوا هناك قبل 5 ساعات من ركوب الطائرة.. تمت كل هذه الإجراءات بدون مشاكل ووصلت الدفعة الاولى من الانصار العائدين إلى مطار جوهانسبورغ في الموعد، أي في حدود الساعة التاسعة والنصف، في حين كان موعد اقلاع الطائرة المخصصة لنقلهم على الساعة الثانية وخمس دقائق بعد منتصف الليل... وبعد عملية التسجيل التي تميزت بالفوضى وعدم انضباط البعض، دخل الانصار إلى قاعة الركوب، غير ان المفاجأة التي كانت تنتظرهم كانت أكبر من حلم العودة والحنين إلى الوطن، لقد اقتربت عقارب الساعة من ساعة الإقلاع ولم يلتفت اليهم احد، ومرت الدقائق ولم يجدوا تبريرا من احد، وفي حدود الساعة الثالثة صباحا كتب على اللوح الإلكتروني بأن الرحلة ستتأخر إلى اجل غير مسمى، ومرت الساعات وغلب النوم الكثير من المسافرين وعانى البعض منهم من الإرهاق وعمت الفوضى ولم يظهر أي اثر لمندوبي او ممثلي شركة الخطوط الجزائرية وتشنجت الأعصاب من جديد، ولم يجد السيد بلقاسمي مدير الديوان الوطني للسياحة أي تفسير لهذا التأخر، فهو كالأنصار كان متواجدا بالمطار، وحتى عندما حاول البعض تحميله مسؤولية التأخر كان رده مقنعا... كما تأخر موعد إقلاع الطائرة الثانية التي كانت مخصصة لنقل الدفعة الثانية من الأنصار والذي كان محددا على الساعة السادسة صباحا من يوم الجمعة، وعمت الفوضى اكثر في اروقة قاعة الركوب، كيف لا والكل يجد نفسه في وضعية لا يحسد عليها، في وقت مرت الرحلات الاجنبية في هدوء وفي الموعد، حيث عاد ابناء سلوفينيا في هدوء ولم تتأخر مواعيد عودتهم ومر ابناء الكاميرون بدون اشكال وعاد الفرنسيون كذلك إلا نحن، فأين الخلل ومن المسؤول ولماذا مثل هذه الوضعيات لا تحدث إلا مع الجزائريين وفي أماكن ما كان يجب أن تحدث فيها مثل هذه الاشياء؟ ولم تهدأ النفوس إلا بعد شاهد احد الفضوليين طائرة الخطوط الجوية الجزائرية وهي تسير ببطء للتوقف في الرواق المخصص لها، ليذيع الخبر بين الجميع ان ساعة الفرج قد حلت وعلى الجميع ان يتسعد لساعة الرحيل. كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحا، ليكتب على اللوح بعدها ان ساعة الإقلاع قد حددت بالساعة السابعة وعشر دقائق، فيما حدد موعد اقلاع الطائرة الثانية بالعاشرة صباحا، وفي هذه اللحظة تغيرت السلوكات لكن التساؤل بقي قائما لماذا يحدث هذا معنا فقط ولماذ لم يتدخل احد ممثلي شركة الخطوط الجوية الجزائرية لطمأنة الانصار بأن الرحلة ستتم في موعد آخر، أو يعتذر لهم عن هذا التأخر او يشرح لهم بأن هذا التأخر ناتج عن سبب ما يقنع به كل الذين تواجدوا في المطار... ولم يطمئن جمهور الدفعة الاولى إلا بعد ان شاهد طاقم طائرة الخطوط الجوية الجزائرية يتأهب للدخول إلى قاعة الانتظار، لكن دون ان يتلفت يمينا او شمالا، إلى الأعناق التي كانت مشرئبة اليه، او الأصوات التي كانت تحاول الاستفسار عن سبب التأخر او حتى تلك التي عبرت عن غضبها بطريقتها الخاصة. ولم تعد السكينة إلى القلوب إلا بعد صعود آخر مسافر إلى الطائرة وغلق ابوابها، لكن ما زاد من حيرة المسافرين ضمن الدفعة الاولى، انه حتى عندما اعتذر قائد الطائرة عن التأخر قال انه تم لأسباب لا يعرفها... وهكذا انتهت مغامرة المونديال بالنسبة لمئات من الجزائريين وهم يأملون في ان تتحسن اوضاع مؤسساتنا، ويستقيم سلوك بعضنا ويعود منتخبنا مجددا إلى المونديال القادم مع سعدان أو غير سعدان.