الالتقاء بالمسرحي القدير سليمان بن عيسى كانت رغبة تسكنني منذ سنوات، لما لهذه القامة الإبداعية من ثقل في مشهدنا الثقافي عامة والمسرحي خاصة، فهي تجمع بين البساطة والجدية، ومع كلّ كلمة أو حركة تغوص في خبايا لا قاع لها، فتتوثّق علاقتك بأب الفنون وتجعلك تتأمّل أكثر فيما هو موجود، ''المساء'' التقت بهذا المبدع المتميّز وفتحت معه مواضيع تخصّ المسرح، الاحتراف، كما توقّفت عند مصالي الحاج ومشروع المسرح التلفزيوني. الفنان القدير سليمان بن عيسى، هل يمكن معرفة سبب تواجدكم حاليا بالجزائر، وهل له علاقة بمشروع المسرح التلفزيوني الذي أطلقتموه عام 2009؟ أنا متواجد في الجزائر أكثر منه في الخارج، إذ لديّ مجموعة من المشاريع التي أسعى لتجسيدها بالجزائر، والمعروف أنّ المشاريع تتّسم بالطول والبطء، ومن بين هذه المشاريع، مشروع ''المسرح التلفزيوني'' الرامي إلى تسجيل مسرحية في الشهر مثل ما حدث مع عرض ''مجلس تأديب'' شهر جويلية من العام المنصرم، ومن المنتظر ان ننطلق في العمل في غضون هذا الشهر. واعترف أنّ العملية الإنتاجية تعطّلت قليلا بسبب سوء التقدير، ولأنّ المسيرة طويلة وتتضمّن تقديم من ثمانية إلى عشرة أعمال مسرحية في العام، لابدّ من تنظيم محكم وتقسيم جيّد للوقت لتجنّب تضييع الوقت أكثر مع التركيز على جاهزية الممثلين ومراعاة رزنامة الأعمال التي يقدّمونها، وهو ما لم نجده لسوء الحظّ في الجزائر حيث يسود خلل في التنظيم وفي العمل المحترف، فلابدّ من تعويد الممثلين على طرق العمل المحترف. هذا المشروع يعود إلى سنتين خلتا، لم كلّ هذا التأخير، السيد بن عيسى؟ صراحة، كنت في الأوّل متخوّفا من إدارة التلفزيون الجزائري، لكن في الواقع وجدت استقبالا جيّدا من قبل مديرية الإنتاج التي رحّبت بالمشاريع التي قدّمتها، ووعدت بتوفير جميع الإمكانات اللازمة لتجسيد هذه المشاريع وتقديمها للمتفرّجين في أحسن صورة. أبهرت المتفرّجين في فيلم ''مصطفى بن بولعيد'' بتقمّصك دور الزعيم مصالي الحاج، كيف كان التعامل مع هذا الدور بالنظر إلى ثقل الشخصية التاريخية وحساسيتها؟ تقديم الشخصيات التاريخية ذات الثقل سواء للسينما أو للتلفزيون يستوجب عملا طويلا ومكثّفا، فحين طلب مني المخرج أحمد راشدي تجسيد الدور لم أصدّق نفسي وطلبت مهلة للتفكير لصعوبة الأمر، وخلال هذه المهلة أجريت أبحاثا عن مصالي بالمعهد الوطني للأرشيف وأردت أكثر أن أراه يتحدّث، لأنّ كيفية كلامه وإلقاء خطبه شيء مهم، فبدأت أطلق لحيتي مع شيء من التردّد.. وبعدها بأسبوعين سافرت إلى مونتريال لإلقاء محاضرة، وأعلمني صديقي محمد حربي أنّ ابنة مصالي مقيمة بمونتريال فاتّصلت بها وزرتها بالبيت وفرحت بلقائي وتحدّثنا عن شخصية مصالي وكيف كانت حياته، وبعد هنيهة جلبت طربوش والدها ولبسته وأوّل ما قالته ''سبحان اللّه''، ويمكن القول أنّ ذلك الطربوش ألبسني الشخصية. في الحقيقة، نشأت في عائلة مناضلة حيث أنّ خالي علي كان مناضلا في الحركة الوطنية في سوق أهراس وقالمة كما كان مقرّبا من مصالي.. لقد تربّيت على أربع ركائز أساسية هي ''الله والنبي، الاستعمار ومصالي الحاج''.. مصالي كان شخصية بارزة والجميع كان يتحدّث عنه وهو ما نما في ذاكرتنا كأطفال.. ولابدّ من الإشارة إلى أنّه لأوّل مرّة نؤدّي شخصية مصالي في السينما، وهو ما جعل العاملين في الفيلم من مخرج، كاتب سيناريو، ممثلين وتقنيين يدخلون في دائرة من التخوّف من تلقي المتفرّجين للدور، وكلّ هذا حفّزنا على العمل أكثر وتقديم الأفضل. أثناء تصوير الفيلم، انتقلت إلى قسنطينة وتوجّهت إلى موقع التصوير وارتديت ملابس الشخصية من برنوس وطربوش، وجاءت ردّة الفعل الأولى من تقنيي الفيلم حيث دهشوا للصورة التي بدوت بها وهو المشهد الذي استغلّه أحمد راشدي بكلّ عفوية، إذ تجمّع حولي الممثلون الثانويون والفضول يملؤهم حتّى أنّ احد الشيوخ المشاركين علّق قائلا ''سبحان اللّه، مصالي عاد من قبره''.. الأكيد هو أنّ شخصية مصالي الحاج شخصية كاريزماتية رهيبة تتّسم بالرزانة، وكان لابدّ من التفريق بين الهيئة التي كان يبدو بها وبين ما يحمله من فكر سياسي، فهو يعطي صورة الجزائري المسلم لكن منطقه كان سياسيا لا دينيا.. وكان يجب الفصل بين الاثنين بالرغم من تكاملهما، لذا تمكّنت من تقديم الدور كما هو منوط بي. وهل هناك أدوار سينمائية أخرى في الأفق؟ أنا لست ممثلا سينمائيا في الأصل، لكني حاليا أحضر لنص مسلسل يروي مسيرة أحمد باي، ويشرف عليه الدكتور والمؤرّخ محمد العربي الزبيري، الذي كتب كثيرا عن هذه الشخصية وأشرف على الكثير من الدراسات التي تناولت حياته ومسيرته الجهادية، ومن المنتظر أن يرى المسلسل النور في رمضان ,.2012 هو دور رائع أنتظره بفارغ الصبر... يعدّ سليمان بن عيسى من أعمدة المسرح الجزائري، لظروف مرّت بها الجزائر انتقلتم إلى الضفة الأخرى من المتوسّط، بعد عودتكم، كيف وجدتم النسيج المسرحي الجزائري؟ الجيل الذي أنتمي إليه قدّم المسرح في ظلّ الحزب الواحد وكانت الأشياء حينها واضحة، انتقدنا الوضع وطالبنا من خلال الفن الرابع بالتغيير وبالديمقراطية والحريات، ولابدّ من الإشارة إلى أنّ المسرح لم يتأثّر بالإرهاب والعنف ولكن بأحداث أكتوبر 1988 وما نتج عنها من تحوّلات وتعددية إعلامية، حيث تكفّلت الجرائد بالدور الذي كان يؤدّيه المسرح من تعرية للواقع ومطالبة بالحقوق، ''فبعد أن كان الصيد أو الأسد في مواجهتنا - بالمفهوم الشعبي - تغيّر معنى التراجيديا''. في مسرحية ''بابور غرق'' انتقدت النظام وطالبت بتغيير الأمور السائدة ودعوت الشعب إلى التحرّك في هذا الاتجاه، كنّا نمنح الكرامة للشعب في مواجهة نظام يخيف.. وعندما يخرج الشعب إلى الشارع فما أمامك سوى غلق أبواب المسرح والخروج معه دون تأخّر وهذا هو الانتصار الحقيقي. في ''أنت خويا وأنا أشكون؟'' وغيرها من النصوص، لم بكن هناك انتقاد للحكم، ولكن كانت هناك دعوة إلى التفكير فيما كان يحدث في الجزائر من تغيّرات سياسية واجتماعية وطرح لتساؤلات جوهرية حول الهوية بعيدا عن النقد الديني وعندما حدث الانزلاق.. تفرّقت السبل. وهنا اخترتم طريقا آخر وتحوّلتم إلى قضايا أخرى كالتعذيب، التمييز والعنصرية، لم هذا الخيار؟ لم أحدث قطيعة في العمل المسرحي وفي نصوصي، بل كانت هنا كاستمرارية، كما لم أتطرّق إلى مسرح الهجرة بحيث أكتب للفرنسي أو الآخر عن هويته لا هويتي، لكن اخترت أن أخاطب الآخر بهويتي الجزائرية ولهذا رفضني الفرنسيون.. أردت أن أفرض على الجمهور أشياء عن الجزائر من داخل الجزائر وحتى وإن لم تكن اللغة لغة الجزائر. بين الجزائر وفرنسا تاريخ لا بدّ من توضيحه، والعنف الذي عرفته الجزائر هو نتاج صيرورة تاريخية بدأت منذ الاستعمار، فكان لابدّ من توضيح الكثير من الأشياء للجمهور الفرنسي، فكنت أوّل من قدّم له عام 1994 نصا عن التعذيب هو ''ذاكرة في الانحراف''، كما قدّمت له أعمالا حول التمييز والعنصرية وعن القضية الفلسطينية في ''المستقبل المنسي''، لأنّ جميع المواضيع مترابطة فيما بينها والتراجيديا هي نفسها، وهذا التواصل والاستمرارية مكّناني من العودة إلى الجزائر ومخاطبة جمهورها، وهو ما تمّ في ''مجلس التأديب'' عام 2010 بعد أن قدّمته في كامل أوروبا عام ,.1998 لقد فضّلت توضيح الأمور عالميا ثمّ العودة إلى الجزائر. لا يمكن الانسياق إلى ثقافة الآخر المبنية على حريات مختلفة غير موجودة في المجتمع الجزائري، فأنا أتحدّث عن الجزائر وثقافتها للجمهور الفرنسي بطريقة جزائرية، لأنّ الجمهور الجزائري لابدّ وأن تبرز له الهوية الجزائرية وتصحّح له الصورة المشوّهة التي يحملها عن كلّ ما هو جزائري، وأنا اعتمد على مقولة للأمير عبد القادر للجنرال أمبرواز ''لو كنت تعلم ما في البدو تعذرني، لكن جهلت وكم في الجهل من ضرر'' . كان يجب أثناء مرحلة العنف الانخراط في العمل الاجتماعي وهو ما فعلته، لقد أنقذت مسرحا بالكامل وقدّمت للجزائر ما لم يقدّمه الآخرون.. هذا هو واجبنا.. تقديم جزائر قوية بتنوّعها، صامدة ومتألّقة. وهل أنتم راضون بما قدّمتموه؟ لا يمكن الشعور بالرضى المطلق، لكن أظنّ أنّي أدّيت واجبي بالرغم من الصعوبات التي واجهتني.. على مدى ثلاث سنوات كان بالإمكان أن أقدّم عشر مسرحيات ولكنّني قدّمت واحدة فقط.. هذا لا يتعلّق بي ولكن بالظروف والإمكانات المتاحة.. جميع من أتعامل معهم يتساءلون في قرارة أنفسهم ''ماذا سيقدّم للجمهور.. هل يمكن خلق حدث مسرحي وثقافي؟''.. الجميع يرتقبون. بصراحة، هل هناك مسرح في الجزائر؟ داخل المجتمع الجزائري هناك تراجيديا لابدّ من إبرازها، فكلّ مشهد حياتي يومي يمكن أن يكون عرضا مسرحيا، وهذا يستلزم وجود من ينقل هذه المشاهد على شكل نصوص والتعبير عنها كتابيا.. نحن نعاني مشكلة نصوص، الموجة الجديدة من الكتاب يكتبون بالعربية الفصحى، لكن أين هي العربية الدارجة في خضم كلّ هذا؟ الكتابة بالدارجة هي من أصعب الأمور، في السابق اهتممنا باللغة المسرحية التي تعبّر عن كلّ ما له علاقة بالمجتمع الجزائري، لذلك نجحت أعمال مسرحية عديدة. يعاب على المسرح الجزائري غياب الفرجة فيه واعتماده على الكلاسيكيات العالمية والاقتباسات، ما مردّ ذلك في اعتقادكم؟ الفرجة مبنية على النص الجيّد، الممثل الجيّد، السينوغرافيا الجيّدة، الموسيقى والإضاءة الجيدتين، وهذا كلّه يعطينا عرضا متكاملا، وإذا ما عكست الآية وفقد أحد العناصر حدث خلل في تبليغ الرسالة المسرحية، وهو ما يحدث في الواقع والتحجّج بانعدام الوسائل حجج واهية، فمثلا ''مجلس التأديب'' حضّرت في أسبوعين فقط في ظروف جزائرية محضة وبإمكانات قليلة للغاية، وإذا ما منحنا شهرا لقدّمنا الأفضل، الاحتراف لدى الجزائريين موجود ولكنّه في سبات. وما هي الحلول التي تقترحونها لإيقاظ الموجودين في سبات؟ لا بدّ من إعادة بعث الاحتراف في الأنفس والتحفيز على العمل، من خلال النصوص الجميلة والرؤى الإخراجية الجديدة والمتجدّدة، بعيدا عن الضغط والتجريح، وكذا العنف. تنتمون إلى جيل مسرحي معيّن، ما هي طبيعة العلاقة التي تربطكم بالجيل المسرحي الجديد؟ في المسرح لا يوجد عمر أو جيل، أنا في الأساس مهندس في الإلكترونيك متخصّص في أجهزة الأشعة الطبية، لكنّني تكوّنت مسرحيا في ظروف عمادها الحبّ والنزاهة والشغف الكبير بالمسرح، وهو ما نفتقده الآن.. المجتمع بحاجة إلى مشروع واضح وهو غير موجود في الجزائر للأسف الشديد.. لقد استغرقت وقتا لفهم ما يحدث في الجزائر، ولا أكذب على نفسي أو على أحد بقيتُ سليمان بن عيسى الذي يعرفه الجميع لكنّهم ينتظرون ما سيقدّمه لهم.. علينا التخلّص من الإيديولوجيات والاستثمار في مجتمع يعرف مراحل انتقالية عديدة، وهذه التحوّلات علينا تناولها فهي تخدم الفن الرابع لأنّه للأسف المسرح قائم على التراجيديا. ألم يفكّر بن عيسى في تكوين تعاونية مسرحية خاصة؟ بعد كلّ هذه السنوات لم يعد هناك مكان ل''البريكولاج'' والعمل بلا شيء، أحتاج إلى امكانات حقيقية وأن أُتْرَكَ أعمل، لم أعد في سن وزمن يسمح لي بتبني المسرح النضالي، ولديّ من التكوين في مجال الاتصال ما يمكّنني من إعطاء الكثير.. أحبّذ أن أخسر ثلاث سنوات وأنجز عشر مسرحيات جادة على أن أربح عامين وأخسر عشر مسرحيات، كلّ هذا يبنى بروية وتفان. لو اقترح على سليمان بن عيسى العودة إلى الساحة المسرحية الجزائرية كمسؤول، ماذا سيكون ردّه؟ اقترحت على وزيرة الثقافة عددا من المشاريع المسرحية وانتظر ردّها بعد أن أكّدت أنّ جميع الفضاءات الموجودة تحت تصرّف وزارة الثقافة تحت تصرّف أي عمل أقدّمه.. وصراحة أريد أن أعرض مسرحية ''مصالي'' في المسرح الوطني الجزائري.. ومنصب مدير المسرح الوطني صغير عليّ، يمكن أن أصبح مستشارا فنيا لكن ليس مديرا أو مسيّرا.. ليست لدي عداوة مع أيّ أحد، هناك اختلاف في الأفكار لا غير ولا أقصي أحدا من محيطي، وهذا الاختلاف لا يجب أن يزرع الفرقة بين المثقفين، لأنّ النهضة الثقافية والفنية تستوجب اتّحاد الجميع بغضّ النظر عما يحملونه من أفكار. في رصيدكم العديد من الأعمال المسرحية المتميّزة، فما هو أقرب عمل مسرحي إلى قلب سليمان بن عيسى؟ هو ''بوعلام زيد للقدّام'' لأنّه جمع شتى المواضيع التي تهمّني وعالجتها، كان أوّل نصّ أكتبه في عشرين يوما تحت ضغط كبير بالبناية رقم 51 بشارع العربي بن مهيدي (مقر ''المساء'' حاليا)، وقدّم 850 مرّة، لذا فهو الأقرب إلى وجداني، حوّلناه إلى فيلم عرض بمالطا، البندقية والكويت.. بالرغم من أنّ في رصيدي 7 نصوص بالعربية و17 نصا بالفرنسية ما بين 5 و6 نصوص في طور الكتابة وأربع روايات. وما هي الرسالة التي توجّهونها للمبدعين الشباب؟ لابدّ من الابتعاد عن التمثيل العفوي، لأنّ مهنة الممثل تعتمد على الاستعداد والدراسة، وكذا العمل المستمر الذي به تتراكم التجارب والخبرة للوصول إلى المرغوب والمراد الوصول إليه، لا بدّ من الابتعاد عن الاندفاع وتحديد الأهداف والغايات..التمثيل مهنة لابدّ من تعلّمها، فهي تعطي دورا لا ممثلا، وهنا أتوقّف عند الدور الذي لعبه مراد شعبان في ''البذرة'' ولو كنت مكان راشدي لمنحته دور بن بولعيد في الفيلم-.