يعد استثمار وقت فراغ الطفل في نظر الأخصائيين النفسانيين، ضرورة تجنيه العقد النفسية التي تؤثر على النمو السليم للشخصية وتضعه في دائرة تطوير الملكات والمواهب، كما تساعده على التعرف على جوانب الحياة المختلفة.. ولمعرفة أين وكيف يقضي الطفل الجزائري وقت الفراغ، أجرت ''المساء'' هذا الاستطلاع الذي شمل آراء بعض الاطفال والأولياء. إثر انجاز الموضوع لمست ''المساء'' الوعي وسط أولياء اليوم بخطورة الشارع، وبأهمية الترفيه في حياة الطفل ومدى انعكاس الفراغ السلبي على شخصية الأبناء، وعلى صعيد آخر تبين أن الأسرة الجزائرية ما تزال متشددة في تربية الإناث مقارنة بالذكور، بحيث لا يسمح لهن بالخروج للعب في الشارع خوفا عليهن، لكن هذا الخوف أصبح يشمل فئة الذكور أيضا، ويفرض على الأولياء مرافقتهم الى المرافق التي يقصدونها بعد العودة الى المنزل، وهو ما أرجعه بعض مستجوبينا إلى الخشية من تأثيرات الشارع السلبية. نحتاج إلى جيل بلا عقد بداية تروي ''أم نسيم قارة'' (الذي يدرس في صف الخامسة ابتدائي)، والتي وجدناها في انتظار طفلها بالقرب من ابتدائية بالجزائر الوسطى، أنها تسمح غالبا لابنها باللعب لمدة 30 دقيقة أو ساعة على الأكثر في الحي استجابة لحاجته في اللعب، وهذه الاستجابة كثيرا ما تدفع ثمنها بالقلق، حيث لا تتوانى في مراقبته من النافذة الى أن يعود أدراجه الى المنزل، كما ترافقه أيضا الى قاعة الرياضة رغم أنها لا تبعد كثيرا عن مقر السكن.. وعن ذلك تقول: ''أنا أخشى عليه من مخاطر الشارع، لكن هذا الاخير يبقى الفضاء الوحيد الذي يجد فيه أطفالنا متنفسا لإشباع حاجاتهم في اللعب والترويح عن النفس بعد العودة من المدرسة، فاللعب ضرورة ليطرد الطفل الكبت الذي يؤدي تراكمه الى السلوكات العدوانية''. وتتابع : '' انعدام المرافق الضرورية للترفيه عن الاطفال مشكلة تعاني منها كل الأوساط الحضرية، والمفترض أن تأخذ هذه الحاجة، الضرورية للراحة النفسية لأبنائنا، بعين الاعتبار في الأحياء السكنية الجديدة حتى لا تلاحق العقد النفسية أطفالنا بسبب عدم إشباع حاجتهم في هذا المجال...''. كثافة البرنامج الدراسي تختزل الترفيه أما ''أم ميساء'' التي اقتربت من ''المساء'' بمجرد أن سمعت فحوى الحديث، فتصرح بصيغة يطبعها التذمر: ''طبيعة البرنامج الدراسي الذي تم تسطيره لأجيال اليوم تختزل شيئا اسمه وقت الفراغ، وتحرم الأبناء من حصتهم في الترفيه عن النفس...''. وبحسب أقوالها فإن، ابنتها ''ميساء'' (السنة الخامسة ابتدائي) التي تدرس في الفترتين الصباحية والمسائية كل أيام الاسبوع، لا تجد المجال للعب والترويح تقريبا، حيث تكتفي بممارسة الرياضة مرتين في الاسبوع، لتعود الى المنزل في حدود السابعة مساء.. وفي المقابل لا تجد الابنة مفرا من مراجعة وحفظ الدروس في باقي الايام، تضيف ''أم ميساء''. مؤكدة أن المذاكرة تفرض نفسها على طفلتها حتى في نهاية الاسبوع الدراسي بسبب كثافة البرنامج المدرسي وكبر الدروس.. وخلاصة قول محدثتنا، أن النشاط الدراسي الذي ينتهي في المدرسة سرعان ما يبدأ في المنزل.. وهكذا يذهب وقت فراغ الطفل في مهب برنامج لا يقر بحاجة الطفل إلى الترويح وتجديد الطاقة. إجحاف في حق الطفولة وبلهجة حادة أيضا حدثتنا ''أم أسامة ومحمد'' (أحدهما يدرس في القسم التحضري والآخر في السنة الثانية).. واصفة عدم الاهتمام بإنشاء مرافق ترفيهية في العديد من أحياء العاصمة، بالإجحاف الكبير في حق الطفولة الجزائرية، التي ما تزال محرومة من أبسط حقوقها في زمن الألفية الثالثة. وتتساءل ''أم أسامة'' قائلة : ''هل ندرك يا ترى لماذا كثر الحديث عن سوء تربية أطفال اليوم، وهل يدرك القائمون على المشاريع العمرانية أن افتقار الاحياء السكنية للمرافق الترفيهية له انعكاسات سلبية على شخصية الاطفال، الذين يتحول عدم إشباعهم لحاجات اللعب والترفيه الى عدوانية؟''. وتضيف: ''العديد من أطفالنا مصابون بعقد نفسية لأنهم ببساطة عاشوا محرومين من الترفيه، مما انعكس سلبا على تكوينهم وتربيتهم''. سألناها هل يعني هذا أن ''أسامة'' و''محمد'' يلعبان على غرار العديد من أطفال العاصمة في الشارع؟ فجاء على لسانها: ''لا، طبعا فأنا أخاف عليهم، ذلك أن الشارع لم يعد آمنا كما كان الحال عليه سنوات الستينيات والثمانينيات، ولهذا يعيشان محاصرين في البيت تطاردهما عبارات: لا تفعل هذا.. ولا تلمس هذا.. وما إلى ذلك، خاصة وأننا نعاني من ضيق المسكن ومن الظروف المعيشية الصعبة التي تحول دون تمكننا من شراء الألعاب الهادفة للأبناء.. وهكذا يظل الكبت لهم بالمرصاد بعد التفرغ من الدراسة''. وبرأي ''أم أسامة'' فإنه لابد من إنشاء مرافق ترفيهية للأطفال غير بعيدة عن الاحياء السكنية وتوفير أجواء الامن لأطفالنا، فهم ليسوا حيوانات، إنما بشر لديهم مواهب.. وضياع المواهب يعني تحويل الاطفال الى قنابل موقوتة؟ وكان لنا أيضا حديث مع بعض تلاميذ الطور الإكمالي والبداية كانت مع بعض الفتيات، اللواتي بدا من خلال حديثهن، أن الأنترنت أصبح متنفس الكثيرات منهن بعد التلفزيون، وفي هذا الصدد تشير ''مروة'' التي تدرس في السنة الثانية متوسط بإكمالية ضامية بالجزائر الوسطى، الى أنها لم تكن تخرج للعب في الشارع عندما كانت تدرس في الطور الابتدائي بسبب رفض الاولياء، أما الآن فهي تستثمر وقت الفراغ في تنظيم خرجات للتسوق مع بعض الصديقات أو لمشاهدة عروض مسرحية، كما تلجأ في بعض الاحيان الى البرامج التلفزيونية أو الانترنت للتسلية، فيما تخصص نهاية الاسبوع لمراجعة الدروس. بينما تفضل زميلتها ''إنعام'' تمضية وقت الفراغ في سماع الاغاني الغربية (البوب) ومشاهدة أفلام ومسلسلات المغامرات العاطفية أو الرعب، فضلا عن تعلم فن الموسيقى مرتين في الاسبوع. تكسر ''إنعام'' الروتين أحيانا بالقيام ببعض الاشغال المنزلية أو باستخدام الانترنت. أما برنامج صديقتهما ''راضية'' (الثانية متوسط) فيبدو أكثر صرامة، حيث تكشف أنها تستفيد يومي السبت والاحد من الدروس التدعيمية، في حين تمضي الحيز الزمني المتبقي من أوقات الفراغ في مراجعة الدروس وزيارة جدتها مساء كل ثلاثاء. ومن وقت لآخر تشاهد ''راضية'' مسسل الرسوم المتحركة ''توم وجيري'' المفضل لديها. منبهة إلى أنها لا تتابع الافلام والمسلسلات على غرار الكثير من زميلاتها استجابة لتعليمات والديها. وبالنسبة للذكور يبدو أن الشارع ما يزال الفضاء الوحيد تقريبا الذي يفسح المجال لهم لإشباع الرغبة في اللعب والترويح عن النفس.. وبهذا الخصوص يقول ''حكيم'' (سنة أولى متوسط بإكمالية يحيى بن عيش): '' لا أجد أي مرفق للترفيه فيما عدا قاعة الرياضة التي ألجأ إليها بعد العودة من المدرسة.. والواقع أنه ليس لدي وقت فراغ كبير بسبب كثافة البرنامج الدراسي''. نفس التصريح تقريبا أدلى به رفيقه ''أسامة'' الذي يدرس في نفس الصف، والذي يلجأ هو الآخر الى قاعة الرياضة عندما تسنح له الفرصة لذلك. وفي المقابل يجد ''حسين'' (الثانية متوسط) ضالته في الشارع، حيث يلعب كرة القدم مع أبناء الحي بعيدا عن رقابة الأولياء.. يقول : '' ألعب في الشارع كل مساء كما أشاء، ولا أعود الى المنزل إلا بعد أن تنتابني الرغبة في ذلك، حيث أن والديّ لا يوجهان لي الملاحظة في هذا الشأن''. الشارع.. الحاضن الكبير للصغار والكبار وبحسب دراسة سوسيولوجية حيثة بعنوان ''واقع الأسرة الجزائرية والتحديثات التربوية في الوسط الحضري'' لباحثين جزائريين، فإنه في غياب المرافق الترفيهية والرياضية أو نقصها، من الطبيعي أن يحول الأطفال وحتى الشباب والكبار الساحات العمومية والارصفة إلى مجالات متعددة الوظائف للراحة والتسلية وقضاء وقت الفراغ واللعب وغيرها من الوظائف، ويتحول الشارع عندئذ الى مجال حاضن للكبار والصغار على السواء، ويشكل متنفسا للأسرة وضاغطا عليها في ذات الوقت، حيث أشارت نتائج الدراسة الميدانية إلى أن الشارع تصدر عند المبحوثين بنسبة 87,84 بالمائة. وتبعا لما ورد في الدراسة، فإن كيفية قضاء وقت فراغ الطفل من المشكلات التربوية الأساسية التي تواجهها الاسرة الجزائرية، فهذا الوقت الثمين يشكل فرصة يتعلم الطفل من خلالها أشياء كثيرة تماشيا مع حريته المتناسبة مع عمره. فإذا كان الطفل في الوسط الريفي لا يكاد يعرف وقت الفراغ، كونه مكلف بمساعدة والديه وأسرته دوما، فإنه على العكس من ذلك في الوسط الحضري، يشكل الفراغ مشكلة كبيرة للأسرة، فقد يوجه الاطفال والمراهقين الى انحرافات مختلفة في السلوك: مثل التدخين، المخدرات، الانزلاق الى الجنس المحرم والسلوكات المنحرفة، وهذا ما يسمى بوقت الفراغ السلبي، وكثيرا ما يمارس هذا الفرغ في محيط العائلة المتمثل في الشارع، الحي، الجيرة، جماعة الرفاق، قاعات الانترنت، قاعات اللعب، مشاهدة التلفزيون. على صعيد آخر، تبين الدراسة أن الأسرة الجزائرية تحرص على تنظيم أوقات أبنائها عند الخروج من المدرسة، لكنها تركز على البنات أكثر من البنين، وهذا يعني بأن الاسرة ما تزال تحافظ على قيمها الاجتماعية والدينية وعادتها، التي تخصص للأنثى موقعا متميزا في داخل منظومة القيم، كما تدل على أن الكثير من الأسر الجزائرية بالعاصمة أصبحت مرتابة مما يحدث في المدينة، خاصة بعد الأحداث الدامية التي عاشتها الجزائر. وتتجه عموما آراء المبحوثين الى الاقتناع بتأثير المحيط الخارجي على الأطفال،.. وأن ما تبنيه الاسرة والمدرسة من سلوك قويم يهدمه الشارع في أقصر وقت، خاصة في ظل الافتقار الشديد إلى الهياكل الرسمية التي تهيكل الاطفال والشباب. معتبرين أن قاعات الالعاب والانترنت التي استقطبت الابناء في غفلة من آبائهم وجهلهم بما يجرى داخلها، بمثابة خلوة بالنسبة للطفل، وهذا ما يدفعهم الى التصدي لتأثيرات المحيط الخارجي على أبنائهم. لكن في المقابل تغض بعض الأسر الجزائرية الطرف عن قاعات الانترنت والألعاب بوصفها المتنفس الوحيد لأبنائهم، بسبب ضيق مساكنهم، حيث أن بقاء الأبناء خارج المنزل يريح الآباء رغم عدم رضاهم.