يؤكد أخصائيو علم النفس أن إدمان العمل ظاهرة مرضية تؤثر على الصحة النفسية، وأن مدمني العمل ليسوا ممّن يوصفون بحبهم للعمل والتفاني فيه فحسب بل هم كذلك أشخاص يعانون من الحاجة المتواصلة للعمل لتناسي هموم الحياة، فيما يرجع البعض هذا الإدمان إلى نوع من الوساوس القهرية والرغبة في تحقيق المثالية في عيون الآخرين. في مجتمعنا، يحترم الأشخاص الذين يقضون ساعات طويلة في انجاز أعمالهم والسبب الاعتقاد ان هذا هو الإتقان الذي يحث عليه ديننا، كما أن هناك أشخاصا يقضون ساعات النهار وراء مكاتبهم ثم ''ينقلون'' تلك المكاتب إلى منازلهم لقضاء ما تبقى من سويعات قبيل النوم وهم منشغلون بأعمالهم، وهناك أشخاص لم يأخذوا عطلة طوال فترة عملهم منذ مدة طويلة في شركة ما، وهناك أشخاص لا يعودون إلى بيوتهم من العمل إلا عند منتصف الليل.. بعد استغراق أولادهم في النوم. ثقة بالنفس.. هروب من الهموم وإحساس بالوجود يشير بعض ''المصابين'' بهذا الإدمان إلى أن العمل بالنسبة لهم هو الأمر الوحيد الذي يستطيعون خلاله الإحساس بوجودهم، وآخرون يرون ان عملهم يُمكّنهم من الاستمتاع بكونهم أصحاب أهمية وقرار وفعالية في ''مجتمعاتهم'' العملية. أما ''مصابون'' آخرون، فهم قد يستخدمون العمل كأسلوب لمواجهة شعورهم بالنقص وعدم الكفاءة بالمقارنة مع آخرين، فيما يعتقد آخرون ان إدمان العمل ينم عن شعورهم الدفين بالثقة بالنفس، وهناك ''مصابون'' آخرون يتهربون من أوضاعهم الاجتماعية وحالات القلق في الانغماس في العمل. بداية الحديث كانت مع إحدى العاملات بإدارة مؤسسة تربوية التي أمضت ما يزيد عن 24 سنة في مجال عملها كمقتصدة، تؤكد أمر قبوعها وراء مكتبها لساعات طوال تنقطع خلالها عن العالم الخارجي ولا تحس بمرور سويعات النهار إلا عند سماع النشيد الوطني مساء يُنبأ بانتهاء اليوم الدراسي، وأن المدرسة ستغلق أبوابها بعد الخامسة مساء فتكون هي آخر من يخرج مثلما تكون أول من يدخل كل صباح. ترى المتحدثة ان عملها هو كل حياتها، وبما أنه ليس لها أولاد تقل مسؤولية المنزل بالنسبة لها لذلك فإنها لا تجد إلا مكتبها ''كاتم أسرارها'' وساعات تقضيها في عملها، كذلك تعتبر موظفة أخرى في إدارة عمومية أمر إدمانها على العمل نوعا من الهروب من حياة الوحدة التي تعيشها، فإلى جانب قضائها لساعات النهار وراء مكتبها والجري وراء إتمام هذا الملف ومراجعة ذاك فإنها لا تتوانى في اخذ ''كوم'' من الملفات الى المنزل لتقضي معها ما تبقى من سويعات اليوم، أما عطلة نهاية الأسبوع فإنها كثيرا ما تتجاوزها لتسجل حضورها كل يوم سبت، تعلق على كل هذا بقولها ''عملي هو حياتي ولا أتصور نفسي ماكثة لساعات دون ملفات وبحثي المستمر عن طرق أخرى لإتقان عملي أكثر''. ولأنه يعتقد أن عليه أن لا يخيب ثقة الناس فيه فإن احد المحامين يقر بأن عمله يأخذ منه كل تفكيره. ويؤكد أنه مضى له ما يزيد عن 20 سنة في ميدان المحاماة ما اكسبه سمعة طيبة لدى فئة واسعة من المتقاضين الذين يقصدونه لتوكيله في قضية ما، ولا يرتاح إلا بانتهاء جلسات قضية يرافع فيها حتى وإن كانت في محكمة بأقصى البلاد ''أريد أن أكون في مستوى الثقة التي وضعها فيّ المتقاضون، لذلك أتناسى نفسي أحيانا وأنسى واجباتي الأسرية وأنا ''أنهم'' ملفات موكليّ''. كذلك تحدث إلينا مواطن آخر يعمل صيدليا، معترفا أن قضاءه لساعات في عمله ليس نتيجة قلق أو هوس أو هروب من مشاكل اجتماعية.. ''لكن هي حالة هروب من الملل التي عادة ما تكون بسبب قلة العمل'' . بينما يعتقد صيدلي آخر أن الطموح حق طبيعي لكل إنسان، ولا يتحقق هذا الطموح إلا بالعمل الدؤوب، لذلك فإنه يبرر أمر مكوثه اليومي في مقر عمله الى التاسعة ليلا بالحاجة الملحة الى تحقيق أرباح مادية للاستجابة لكل متطلبات أسرته. ..إنهم لا يستطيعون التوقف عن العمل! عندما يصبح العمل في المرتبة الأولى ويصبح كل شيء آخر في المرتبة الثانية، فهذا ما تطلق عليه أخصائية الصحة النفسية نعيمة خروف ''إدمان العمل''، مضيفة أنه مثل أي إدمان آخر لا يهدد الصحة فقط إنما الأسرة أيضا. فمدمنو العمل لا يستطيعون التوقف عن عملهم، كما أنهم لا يستطيعون الشعور بقيمتهم الذاتية إذا توقفوا عنه، فهم يعملون بشكل مستمر، وتجد هؤلاء الأشخاص يعملون حتى في عطل نهاية الأسبوع وباقي العطل مما يجعل هذا الإدمان، كغيره من أنواع الإدمان الأخرى، يؤثر سلبا على صحة ''المصاب'' وحياته الاجتماعية كونه يبذل مجهودات تزيد على طاقته الجسدية والفكرية ما يؤدي الى تقييد حريته الشخصية. وتعدد الأخصائية أهم أسباب الإصابة بالإدمان على العمل في ''كوننا نعيش في بيئة تنافسية، حيث ان الفرد يسعى دائما لأن يكون الأفضل، حتى ولو كان ذلك على حساب أمور أخرى مثل الصحة او الأسرة، كما ان المجتمعات العصرية مليئة بالضغوطات لعل أهمها الرغبة في عيش حياة لائقة ومن هذا المنطلق، يشعر مدمن العمل بأن عليه تحقيق أهداف معينة قد تتجاوز في بعض الأحيان قدراته، والسبب في ذلك يعود إلى نظرته الافتراضية لنفسه، كما أن هناك مدمنين لا يملكون القدرة على الشعور بالإنجاز، أي أنهم يشعرون بالذنب دائما لاعتقادهم بأن عليهم عمل المزيد للوصول الى المثالية، وهذا نوع من الهوس او صورة من صور الوسواس القهري''. وتجدر الإشارة إلى أن مدمني العمل تصيبهم حالات من القلق ونفاذ الصبر إذا قاطعهم احد أثناء عملهم، كما يعاني هؤلاء بحسب الأخصائية من الانعزالية، حيث أن مدمن العمل ينعزل عن الآخرين بقضاء أوقات طويلة في عمله، كما أنه يجد صعوبة في إيجاد هوايات خارج نطاق عمله، مما يبعده أكثر عن الاختلاط بالآخرين وهو ما ينعكس على صحته النفسية لتصبح أهم ميزات شخصيته عدم مقدرته على اتخاذ القرارات الصحيحة، ومعرفة الصح من الخطأ، كما يتملك مثل هذا الشخص الخوف من الفشل عند محاولة القيام بنشاط آخر غير العمل الذي يقوم به، كما أنه قد يعاني من الاضطراب والقلق والكآبة والخوف من عدم النجاح في إتمام عمله. وتنصح الأخصائية مدمني العمل بالتقليل من المثالية التي يضعون أنفسهم فيها ذلك لأن الكمال لله وحده، وهي تعتقد ان تعامل الفرد بواقعية مع عمله والتفاعل معه يكون بوضع اهداف منطقية ومحددة وقابلة للإنجاز من خلال قيامه بعمل ما من شأنه أن يساعده على القيام بمهامه على أحسن وجه دون الإحساس بتأنيب الضمير (تقول الأخصائية).