سليمان زغيدور كاتب صحفي ولد بمنطقة البابور (القبائل)، يعيش في فرنسا منذ أربعين سنة، يشغل حاليا منصب رئيس تحرير قناة ''TV5 MONDE''، بالإضافة إلى كونه باحثا في معهد البحوث الدولية والإستراتيجية بفرنسا ومدرسا لمادة ''جيوسياسية الأديان'' بجامعتيّ مونتون وبواتيي، وعمل زغيدور مراسلا للعديد من الجرائد الدولية كما قام بالعديد من التحقيقات الكبرى طيلة 25 سنة حول أمريكا اللاتينية، الشرق الأوسط، آسيا الوسطى وروسيا، علاوة على تخصّصه في واقع وحياة الأمريكيين اللاتينيين من أصول عربية، كما صدرت له العديد من المؤلفات من بينها ''الحياة اليومية في مكة، محمد إلى يومنا هذا''، ''الإسلام'' و''الرجل الذي أراد أن يلتقي الإله''. ''المساء'' التقت السيد زغيدور على هامش تقديمه محاضرة حول ''جزائريو الأراضي المقدسة'' بالمركز الثقافي الفرنسي وطرحت عليه أسئلة متنوّعة عن معنى الهوية والأحداث الأخيرة في العالم العربي وكذا القضية الفلسطينية وغيرها فكان هذا الحوار. - ذكرت في المحاضرة التي ألقيتها مؤخرا بالمركز الثقافي الفرنسي أن الشاميين من أصول جزائرية لم يجدوا أية صعوبات في التغلغل في هذه المجتمعات، في رأيك ما هي الأسباب؟ * إذا تحدثنا عن الجزائريين المقيمين في المشرق العربي فإنهم بحكم استقرارهم منذ أجيال عديدة في مجتمعات عربية مسلمة، لم يكن لديهم أي مشكل في التمسك بثقافتهم الأصلية فكان اندماجهم في ثقافة هذه المجتمعات أمرا طبيعيا، وعندما استقلت هذه الدول لم تخصّص قانونا مدنيا مختلفا أو وضيعا لهم. وفي هذا السياق، يمكن أن أقول إن الإنسان يتمسّك بهويته بشدّة وإلحاح حينما تتعرّض إلى الاضطهاد والاحتقار ولهذا فأحسن طريقة لدفع الفرد إلى نسيان أو التنازل عن هويته هو السماح لها بالوجود بكل حرية. - ماذا عن الفرنسيين من أصول جزائرية، ألا يتعرّضون للعنصرية من طرف الأحزاب اليمينية وبالأخص المتطرّفة منها خاصة قبيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2012؟ * الفرنسيون من أصل جزائري لا يشكّلون مجموعة واحدة بل هم عبارة عن مجموعات متنوّعة اندمجت في المجتمع الفرنسي بطرق مختلفة، وعلى سبيل المثال الاندماج في شمال فرنسا في مجال الفندقة لم يكن على نفس شاكلة الاندماج بباريس في قطاع البناء ولا في مرسيليا في مجال الجامعة. فالجزائريون يقيمون بفرنسا منذ أكثر من مائة سنة وبالتالي أصبحوا يشكّلون مجموعات متنوّعة، فهناك مثلا طبقة برجوازية ونخب إدارية وأخرى مثقفة جامعية من أصل جزائري، ولهذا أصبح الحضور الجزائريبفرنسا يشكّل أرخبيلا يضمّ مجموعات جزائرية بدرجات مختلفة من الاندماج في المجتمع الفرنسي. - لماذا تخاف أوروبا وبالأخص فرنسا من فقدان هويتها الأصلية؟ * تقوم الأحزاب اليمينية المتطرّفة في أوروبا بلعب ورقة الهوية والقيّم المسيحية، كما تتّهم الإسلام أنّه عدوّها الذي يهدّد هويتها، أمّا إذا تحدّثنا عن فرنسا بالتحديد فأعتقد أنّه يمكن أن نفسّر خوفها هذا بالإرث الكولونيالي الذي لم يتم الفصل فيه بطريقة نهائية، وما نتج عنه من مخلّفات نفسية على المستوى الجزائري والفرنسي أيضا. - هل تعتقد أن الهوية معيار ثابت أم متغيّر وهل يمكن أن تتحوّل أوروبا إلى خليط من الأجناس من دون أن تفقد هويتها الأصلية؟ * الهوية تصوّر إيديولوجي وليس حقيقة، وكلّ الأجوبة عن ماهية الهوية ستكون إيديولوجية وليست حقيقية.. لكن لا يجب أن نخلط بين مفهوم الهوية بالتراث بل في الكثير من الأحيان تكون الهوية عبارة عن قراءة أخرى أو ترجمة إيديولوجية للتراث، وبالمقابل ما نطلق عليه تسمية ''الهوية الوطنية'' هو ما تعبّر عنه الدولة بواسطة الدليل المدرسي مثلا. وفي هذا السياق، درست كثيرا موضوع العرب في أمريكا اللاتينية وأؤكّد أنّ عرب الأرجنتين، يشعرون وبكلّ فخر أنّهم أرجنتينيون وعرب ومسلمون في آن واحد، وفي البرازيل هناك نساء يرتدين الخمار ولا أحد يزعجهن في هذا الشأن، فالبرازيلي يمكن أن يكون من أصل أوكراني أو عربي أو يهودي أو هندي أو أسود فكلّ لحن يصنع السامبا، ونفس الشيء يحدث في الولاياتالمتحدةالأمريكية فقد سمعت الآذان في بروكلين وبالضبط في شارع ''اتلانتيك افونيو''(شارع العرب). إذن الهوية هي تصوّر إيديولوجي كما أنّها تتغيّر ولا يمكن أن تكون ثابتة، فلا توجد هوية واحدة ولا يمكن أن نحدّدها من خلال الدين فقط أو الثقافة أو اللغة، فكلّ شيء يصنع الهوية، فأنت مثلا مختلفة عن أختك رغم أنّكما تشتركان في العديد من القيّم لهذا أرى أنّ الجدل حول الهوية عقيم وخاطئ، كما اعتقد أيضا أنّ الهوية ليست مشكلا متعلّقا بفرنسا ففي الجزائر أيضا تطرح المشكلة، إذ هناك من يضع اللغة في مقدّمة مكوّنات الهوية وهناك من يضع الدين، وهناك من يهتم بالجهوية ففي الجزائر أيضا لم تحل بعد مسألة الهوية. - كيف نحل مسألة الهوية؟ * عندما لا نفكر فيها أصلا، الهوية ليست مشكلة تبحث عن حلّ، بل هي وهم يجب التخلي عنه، وفي هذا السياق يقول الكاتب والسياسي أندري مالروكس إن الهوية هي ما نصنعه نحن وهي ما أيضا ما يتبقى حينما ننسى كل شيء. - هل يمكن أن نسمي الأحداث التي عرفتها عدّة دول عربية ثورة؟ * أنا لا اعتبر ما يحدث في الدول العربية ''ثورة''، بل هو ردّ فعل لكلّ حالة الاختناق والتراكمات الناتجة عن الظروف الصعبة التي تعيشها الشعوب العربية، ربّما في مصر وتونس يمكن أن أقول وبحذر أنّ ما حدث ثورة وأقول بحذر لأنّ الثورة مشروع يحمله أشخاص يدركون تمام الإدراك ما الذي يجب تغييره وما هو بديله، إلاّ أنّني أرى أن الشعار الذي حملته هذه الأحداث يختصر في كلمة ''ارحل''، ولكن ماذا بعد إسقاط النظام؟ لا أحد يفكّر في ذلك، لهذا لا اعتبر ما يحدث عبارة عن ثورة، بل لنقل أنّه غضب شعبي نتج عن تراكم الصعوبات والخيبات ومع ذلك فأنا أراها أحسن بكثير من الجمود الذي تعيشه الدول العربية. - ماذا عن الجزائر؟ * الجزائر بدأت قبل الجميع في هذا المسار ودفعت الثمن غاليا، والدرس الذي نستخلصه مما حدث فيها هو أنّه لا يكفي أن نثور فقط بل يجب إتمام العملية الانتقالية، بالمقابل أقول أنّ المشكل يمسّ الدول العربية بشكل عام، بحيث تضمّ نخبا بدون شعوب وشعوبا بدون نخب، يعني أنّ هناك أجسادا بدون رؤوس ورؤوسا بدون أذرع وسيقان، تتبادل مشاعر الكره فيما بينها. وفي إطار آخر، منذ أن اندلعت ثورة ''الربيع العربي'' لم نسمع أي خبير عربي يتحدّث عن رهانات ما حدث بل كلّ الخبراء العرب يكتفون بالتعليق على تحاليل خبراء الغرب حول ما حدث ويحدث. - لماذا يستورد الخبراء العرب أفكار نظرائهم في الغرب عن الأحداث التي تقع في عقر دارهم؟ * يعود ذلك إلى الإرث الكولونيالي الذي ورثه العرب من المستعمر الغربي، فعندما لا يتحكّم المواطن العربي في حياته لأجيال عديدة وحينما يكون تحت وصاية الغير ويطبّق قراراته من دون نقاش يجد نفسه بعد الاستقلال وبين عشية وضحاها أمام قرارات تمسّ مواضيع مختلفة، بل يجد نفسه أيضا أمام نموذج وحيد وهو المستعمر القديم، أبعد من ذلك فيقوم ب''توطين'' الاستعمار، أي يطبّق تصرّفات المستعمر فمثلا يطبق كلّ سلبيات سياسة الإدارة الاستعمارية وينسى إيجابياتها لأن هذه الأخيرة رغم سلبياتها كانت مجبرة على تحقيق نتائج ميدانية، أي أنها كانت مجبرة على تشييد جسور وبناء مستشفيات وغيرها، بالإضافة إلى ضرورة أن تكون كلّ هذه المشاريع مجسّدة بتقنيات عالية، ولكن مع كل الأسف ورثت الدول العربية من المستعمر ما هو سلبي وأضافت عليه أمورا سلبية أخرى. - هل تعتقد أن تسييس الدين تراجع أمام الأحداث التي عرفتها الدول العربية؟ * الدين موجود بقوّة في اليمن وحتى في سوريا ولكنه غير ذلك في تونس مثلا، لأنّ تونس هو البلد العربي الوحيد الذي اتّخذ العلمانية كسياسة له منذ منتصف القرن التاسع عشر، وأتوقّف هنا لأقول أنّ هناك فرقا بين طبيعة الحكم العثماني في كلّ من الجزائروتونس، فالجزائر حكمت من طرف رياس معظمهم من اليونان وكورسيكا وغيرها، هربوا من بلدانهم وأسلموا وحكموا الجزائر ومن بعدها تزوّجوا بجزائريات وأطلقت على أبنائهم تسمية ''كورغلي'' ومع ذلك لم يهتموا كثيرا بالبلد الذي حكموه. أمّا تونس فكان مصيرها مختلفا، حيث حكمتها نخب عثمانية تغلغلت في أوساط السكان المحليين، ووقفت إلى جانب الشعب ضدّ الإمبراطورية العثمانية، وتمكّنت من تأسيس فكر دستوري حتى أنّ تونس حرّرت العبيد قبل فرنسا، ولهذا احتفظت تونس بأرضية علمانية خصبة، أي أنّها دولة عصرية مدنية تضمّ مؤسسات وهو ما لم تعرفه الجزائر وليبيا مما أثّر بشكل كبير عليهما. - تقدّمون دروسا في جيو-سياسية الأديان بفرنسا، لماذا حينما نتحدّث عن التطرّف الديني نقصد به مباشرة المسلمين؟ * التطرّف الديني لا يعني فقط الإسلام ولكن حسب الإحصائيات فإنّه الأكثر بروزا، صحيح أنّ هناك تطرّفا دينيا يهوديا يقوم بالطرد والتعنيف وأحيانا القتل ولكنه لا يخرج عن حدود إسرائيل أمّا التطرّف الديني المسيحي فإنّه في أغلب الأحيان لا يتعدى أن يكون شفهيا، بينما التطرّف الديني الإسلامي يعبّر عن نفسه بالقنابل والعمليات الانتحارية خارج حدوده، ولكنني لا أنكر أن هناك من يبالغ في عنصريته تجاه الإسلام وينعته بكلّ النعوت. - لماذا يعدّ الدين مصدر النزاعات في العالم؟ * ليس صحيحا، فالدين ليس مصدر نزاعات حقيقية، الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ليس صراعا دينيا، فاليهود لا يحاولون إدخال المسلمين والمسيحيين من الفلسطينيين إلى الديانة اليهودية والعكس صحيح، كما أنّ اليهود لا يحاولون هدم المساجد وطرد المسلمين، كما أنّ المسلمين لا يريدون أيضا هدم المعابد اليهودية وطرد اليهود منها، المشكل يتعلق بحسّ الوطنية أي بالصراع على أرض صغيرة جدّا تضمّ ستة ملايين ونصف مليون إسرائيلي وخمسة ملايين ونصف مليون فلسطيني أي تقريبا 12 مليون نسمة في 34 ألف كلم مربع (مساحة ولايتيّ تلمسان وتبسة معا). - هل تؤمن بما يسمى بصراع الحضارات؟ * لا أؤمن بهذا المفهوم، فالحروب لا تندلع بين الحضارات بل تقوم بين الدول والأفراد والجيوش والمجموعات السياسية وما نسميه بالعالم العربي، يضم 10 بالمائة من المسيحيين، كما أنّ نصف يهود إسرائيل أصلهم من الدول المسلمة ومن ثقافات عربية، مثلا في إسرائيل هناك حي بيت شيان، يحيي سكانه الأعراس وفق تقاليد عربية محضة، فيستعملون الحنة ويطبخون الكسكسي وسط الزغاريد، أما لباس العريس فيتمثّل في قندورة وشاشية وبابوش في حين لباس العروس يكون من مكناس أو تلمسان، ويرقص الجميع على أنغام الشاب خالد ودحمان الحراشي وغيرهما، فإذن ما يفرّق بين فلسطين وإسرائيل ليس اختلاف التقاليد والثقافة والدين بل التمييز في الحقوق. - كتبت العديد من المؤلفات حول الإسلام، هل ابتغيت من ذلك تعريف الغرب بالإسلام الحقيقي؟ * لا يوجد إسلام حقيقي، الإسلام هو ما يعيشه المسلمون كلّ يوم وأنا لا أريد أن أعرّف الإسلام للغرب، بل أكتب عن المواضيع التي تهمنّي خاصة أنّني منحدر من هذه الثقافة، فليس لديّ أيّ إرادة لإعطاء صورة للإسلام سواء كانت جيدة أم سيئة. - حتى ولو أخطأ الغرب في تقدير الإسلام؟ * الغرب يعرفون عن الإسلام أكثر من المسلمين، فهناك كتب في باريس تتحدّث عن تاريخ العالم الإسلامي المعاصر أكثر من التي تتوفّر عليها الدول العربية، كما أنّ الدراسات حول الإسلام في قطاع الدراسات العربية للجامعة العبرية في القدس حول الإسلام هي أكثر بكثير من المتوفرة في جامعات الدول العربية. - ماذا عن مشاريع سليمان زغيدور في عالم الكتابة؟ * سأكتب عن العلاقات الجزائرية-الفرنسية منذ قرنين، أريد أن أوّضح كيف أنّ لفرنسا جزءا في الجزائر وأنّ للجزائر جزءا في فرنسا لا يمكن إزالتهما وهي حقيقة لا تريد بعض الأقليات في البلدين أن ترضى بها، وكأننا نستطيع أن نقصي الماضي والتراث والإرث!.