الموهبة منحة ربانية يمنحها الله لعباده، وما على الموهوب إلا رعاية موهبته بالنماء والصقل وريها بالثقافة والعلم، وهذا ما درجت عليه الأستاذة الشاعرة شافية مطاوي التي جمعت بين العلوم الدقيقة الفيزياء النووية وفيزياء القصيدة الشعرية بثلاث لغات؛ عربية، فرنسية وإنجليزية، حيث استضافتها أول أمس الجاحظية في أمسية شعرية بمقرها. شافية تتخير كلماتها الشعرية وكأنها تحيلها إلى مخبر تقطير وتصفية، بل هي أيضا تختار موضوعات شعرها حتى تلبسها من أفكارها وفلفتها ونظرتها للحياة والوجود، هكذا الشعر تتصوره وتشكله دون أن تتقيد بنظمه وقوانينه الخليلية أو التفعيلية الحرة على منهج السياب ونازك الملائكة، بل تتركه مرسلا وتعتمد الصدق في اللفظة حتى ولو أوقعت خللا بالشكل، فالجملة الشعرية عندها أمانة ينبغي تأديتها إلى المتلقى بعذريتها وفطرتها دون اللجوء إلى مكيجتها بمساحيق تخدع، ولكنها لا تبدع. قراءات شعرية للشاعرة شافية مطاوي كانت لها دلالتها الاجتماعية، حيث افتتحت قراءتها الشعرية بقصيدة عنوانها »الرفيق« جاء في بعض منها: ''قد يس بين الحرف والهوى أبدعا ... وفي صمته أرقب حكم الدوام... كدت أنسى في صحبته الأهل بالوداع'' كما قرأت قصيدة أخرى عنونتها ب»بائع الشوك والزجل« تقول فيها: ''شامخ الهيبة رزين الخطى رمادي البدلة يجوب الرصيف في الزحام ليس له رفيق في السفر مهرولا يجول يجول يجول يقحم المبسمة رويدة يقابلني جليسا يزفني عطره يخترق عباب الذكريات وأخيرا ينطق بالزجل يريد الحلم إكليلا من خالص نابت الخمائل سره كامن في الحقيبة بين السرّ والسيرة تقف بطرية ويبقى اليوم هاجس ينتحر قربانا عن الابدية عن الهوية كما كانت قصائد الشاعرة برقة الطبيعة وجمالها، وكيف لا وهي من مدينة الورود البليدة، حيث تخيم الطبيعة بكل جمالها الجبلي الغابي والسماوي. الشعر تراه الشاعرة لبنات تهندسها وتشيدها على الصورة الشعرية التي ترسمها بخيالها وفي ذهنها، لتسطرها جملا على الورق، الفلسفة هي الأخرى فضاءات مفتوحة على القلق والسفر الفكري، بحثا عن إجابة أو مطاردة لفكرة، حيث قرأت قصيدة أخرى عنوانها »في مهب الحياة« تقول فيها: ''فحوى لقاءك ما عاد يجدي الآن ارحل حتى لا ينزع منك الوجدان عند كل طاولة شطرنج تراودك بالنسيان عند كل مرفأ وطأته قدماك في أعماق الشرخ زرعت الأقحوان وصحت شدوًا في زخم البلد ثم أوصدت باب البهو لاتتركك.. تحملت ميمون ماء البرك هللت للحياة اقبالا حميا'' لم تقف الشاعرة شافية مطاوي على ضفاف الحياة والاغتراب وجداول الفلسفة، بل اقتحمت على المرأة خصائصها وراحت تجلد البعض من النساء بسوط قلمها ملهبة إيهن نقدا، خصوصا ذلك الصنف من النساء الذي يمتهن السياسة، حيث رأت الشاعرة أن الكثير من العوائق هي من صنع المرأة ذاتها، والمرأة هي التي تقزم نفسها، حيث قرأت شافية قصيدتها المعنونة ب»مسلوبة الأجوفين« حيث تقول: أغدقك بديع الصنع مظهرا وأجلسك الشيطان عرش الدمى بات ينزف سنين الضجر كنت بالأمس تزحفين تجهشين واليوم تتمردين خانك الحرف الأجوفين تشاجر الدهر تغتصب السكينة...'' تبقى الشاعرة تحاول النفاذ لماهية الأشياء، تحاول أن ترى بعين الحكمة تجاويف السؤال الذي يبحث عن ردم كل الاستفهامات الناتئة من ذلك الغموض، حين قرأت على الحاضرين قصيدتها المعنونة ب »سنديان في مهب الريح« حيث تقول: ''بين الجبل والبيداء يقف محتارا بين الحسرة والاختيار كالطفل المعتوه يشهق يتأوه ثم يجهش بالبكاء!! أسكت الطير الغريد! نكس الراية الغراء من أنت برب السماء؟ كالوغد منك الحس أحجما'' أكدت الشاعرة شافية مطاوي أن مصدر الهامها الشعري والعلمي هو الطبيعة، فهي منغمسة في الطبيعة وتعد نفسها مناضلة في البيئة، ومن أجلها منذ زمن بعيد، فماذا تقول في هذا العشق الساحر في قصيدها »مفتون الطبيعة«. ''الكون ملك الإله ملك الجمال ما أروعا بأمره أنت أيها الطفل الأمير المستخلف فليحفظك الرب من الجهل والفقر في سحر الطبيعة لك سحر العقل والجسد أعزف بريشة الفنان سجل.. ترى الطير اصطفت على الأغصان لتقود حوقا سماء علياء ارتش عليها قطن الغمام بقلادة صاغها من خالص اللؤلؤ والكرستال وما الغيث إلا دموع شوق.. بقدوم الفارس المتربع عرش الحب والخضر'' كما ألقت قصيدة أخرى عنونتها ب »الشمعدان« ''رفيق الدرب أنت دوما غمر تني سناء دوحتي سباتا صنعت من حلمي أقراطا سليل دفاتري لازلت أستشيرك في دفاتري تبصرا في عيد ميلاد تجدد العهد وكل نقش تخلدني أمجدا منبع السلوى لاتبخلوا العطاء في بيت المقدس رجوتك مشعلا'' كما أنشدت الشاعرة شافية للغربة والانتظار ''شمس الأصيل الغائب تائهة أبكي داري رب بيتي غائب فانكسر وجداني حلمه عيد طعمه فرح للأقران'' كما ألقت قصيدتان باللغة الفرنسية، تميزت بالروح الوطنية والعربية والانسياب الشعري. وهكذا، لونت الشاعرة شاية مطاوي لوحاتها لتودع الجميع على ربيع بليدي آخر فيه من الثمر والورد والجمال.