الحرية نفسها صارت مفقودة اليوم في الشعر. وأعني بذلك أن النقاد أو الذين يعمدون إلى الموازنة النقدية قلما ينصفون الشعر والشعراء. والحقيقة هي أن كل من تصدى للنقد فرض على نفسه وعلى الآخرين الأخذ بمعايير معينة لا ينبغي الخروج عنها ولا عليها. وقد يتجنى بعض الشعراء النقاد أحيانا على أقرانهم فيطلقون نعوتا لا تليق بهم. ذلك ما لمسته في العديد من الحوارات التي أدلى بها بعض الشعراء خلال السنوات الأخيرة. محمود درويش كذا وكذا. البياتي كذا وكذا.. وهي أحكام تدل على أنانية مفرطة، إذ أن الشاعر الناقد يتصور أنه يمتلك الحقيقة وأن الطريق التي ينبغي السير عليها في مضمار الإبداع الشعري لا ينبغي أن تخرج عن كذا وكذا. وينسى هؤلاء الشعراء النقدة أن الشعر حرية في المقام الأول، حين نراجع تاريخ النقد أو الموازنات النقدية في الأدب العربي القديم نجد أن الذين تصدوا لإبداء آرائهم في شعر هذا أو ذاك، كانوا لا يخرجون عن سلوك أدبي معين، بمعنى أنهم لا يزعمون أن الشعر ينبغي أن ينظم حتما بهذه الطريقة أو تلك، وأن الصور ينبغي أن تكون كذا وكذا، وإنما كانوا يصدرون عن رحابة صدر في المقام الأول. النابغة الذبياني، ذلك الذي كانت تضرب له قبة من أدم في سوق عكاظ ما كان يتجنى على أقرانه من الشعراء. يقول رأيه في القصيدة الفلانية أو الفلتانية ويروح صاحبها وقد رضي بالحكم الذي أصدره النابغة. وكذلك الشأن في العديد من الآراء النقدية التي صدرت عن أبي العلاء المعري في كتابه ''رسالة الغفران'' أو ابن رشيق القيرواني في كتابه ''العمدة'' أو حازم القرطاجني في كتابه الشهير ''منهاج البلغاء''. في عصرنا هذا رأينا من يتجنى على أمير الشعراء أحمد شوقي وعلى مسرحياته الشعرية بوجه خاص، ويزعم أنها تفتقر إلى كذا وكذا هذا بالرغم من أن المسرح الشعري ما كان موجودا في تراثنا العربي. فمن أين جاء أولئك النقدة بأحكامهم اللهم إلا مما قرأوه عن المسرح الشعري الأوربي؟ يبدو أن نقاد الشعر في أيامنا هذه، وخاصة منهم الشعراء الذين يأخذون بقسط وافر في هذا الشأن قد يقضون على أسباب الإبداع الشعري كله في أدبنا العربي الحديث. الشعر شعر وكفى!. والمعول عليه إنما هو الجمال الفني الذي يتفق حوله القراء ومتذوقو الشعر بصورة عامة. لقد تطور الشعر العربي الحديث، خاصة منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، لكن، يبدو أن الذين يراهنون على النقد الأدبي لم يتطوروا بعد، أحكامهم لا تأخذ بالمعايير الكلاسيكية المتفق عليها في التراث العربي، ولا هي تأخذ بأسباب النقد الأوربي الحديث. وكل ما في الأمر هو أن الأنانية صارت مفرطة في هذا المضمار. ولذلك وجب القول إن الشعر يظل شعرا وكفى، أي عملا فنيا في المستوى الأول، ولا يحتاج إلى من يزنه بهذا الميزان أو ذاك.