رؤية جديدة في المعالجة النفسية وطموح لإنشاء مركز ثقافي للأطفال عرضت المختصة في علم النفس فاطمة رحال زرهوني بالعاصمة مؤخرا، معرضا هو الأول من نوعه، تحت عنوان «المعالجة بفن الرسم»، وهو كما يدل عليه اسمه كان مخصصا لرسومات الأطفال الذين عايشوا زلزال بومرداس 2003، وتتراوح أعمارهم ما بين 4 و15 سنة. وقد قدمت بالمناسبة كتابا لها يحمل عنوان؛ «المعالجة بفن الرسم»، هو في الحقيقة إبراز لحكايا أولئك الأطفال دون تحويل أو إضافات. لا تتحدث رسومات الأطفال في مجملها عن الخوف من الموت، ولكنها تحكي رواية الأمل والجمال والعالم المفعم بالألوان والزهور والحياة ككل، كما يراها الأطفال بأنفسهم. فقد عرضت المختصة النفسانية التي أمضت ما يزيد عن 25 سنة في التعامل مع الحالات النفسية لمختلف الشرائح العمرية والأطفال على وجه التحديد، 13 رسما لأطفال من مدينة الرغاية عايشوا الزلزال سنة 2003، وعايشوا لحظات الخوف والرعب، منهم من شاهد بعينيه وفاة والديه أو أحد أفراد عائلته وعاشوا بتلك الصدمة لأشهر، واستطاعت المختصة التي أشرفت على العلاج النفسي لمجموعة من أولئك الأطفال بمركز مختص في العاصمة، أن تخرجهم من عزلتهم النفسية عن طريق الرسم. «لقد عرضت على الأطفال حينها أوراقا وألوانا وطلبت منهم رسم زلزالهم، أي ما عايشوه وما بقي عالقا في أذهانهم، وكنت وراءهم، وطبعا لم يكن لدي الحق بأي شكل من الأشكال توجيههم لرسم معين أو استعمال لون معين، بل تركت لهم حرية اختيار الرسم واستعمال الألوان، حتى ولو تركوا الورقة بيضاء، فمن حقهم وله دلالات أيضا»، تقول المختصة فاطمة رحال زرهوني في حديث لها إلى «المساء»، على هامش ندوة صحفية عقدتها بمركز التسلية العلمية بالعاصمة؛ «بعد كل رسم، قمت بسؤال الطفل ليعبر بنفسه عن رسمه، والهدف طبعا كان إخراجه من الحالة النفسية التي عايشها خلال وقوع الكارثة الطبيعية من جهة، وجعله يتفاعل مع بقية المجموعة ليخرج من عزلته، فمثلا رسم البنت ريمة ذات التسع سنوات، والتي أعادت في رسمها تمثيل الرسوم التي كانت ممثلة على جدران عمارتها التي دمرت أثناء الزلزال، حيث أعطت أهمية للأزهار، ثم مثلت بيتا وكأنها تريد أن تنسى. وهذا رائع بالنسبة لبنت في مثل سنها لأنها أرادت بعث رسالة، مفادها أن الحياة متواصلة ويمكن عيشها بالأمل، وأخرى بنت تبلغ من العمر 11 سنة، رسمت كتلة سوداء، تشير من خلالها إلى المطبخ الذي كانت تتواجد فيه، حيث اشتعلت النيران فيه بمجرد حدوث الزلزال، وقد رفضت رفضا قاطعا العودة للعيش في ذلك المنزل، أما البنت إيمان 10 سنوات، فقد رسمت مربعات ولونتها بعدة ألوان مختلفة، حيث يمثل هذا بالنسبة لها سجادا كان آخر شيء رأته في المنزل لحظة وقوع الزلزال، بينما ريم صاحبة ال 9 سنوات، قامت برسم منزل وأولاد يهربون، إضافة إلى هيكل عظمي وأشخاص يبكون، مثلتهم ببعض النقاط الصغيرة عن طريق القلم، وعبرت عن رسمها بفرار الجميع ممن حولها، وأنها كانت تسمع أصوات الصراخ والبكاء من كل ناحية.. كل طفل عاش الزلزال الخاص به، كما قلنا، ورسوماتهم إنما تعبر حقيقة عما بقي عالقا في أذهانهم. هناك رسم آخر لبنت في ال11 سنة، يجسد منزلا وسط حديقة خضراء في طبيعة ربيعية، قالت إنه يمثل منزل أحلامها، لأنها لا تريد الحديث عن منزلها المنهار يوم الزلزال، والذي تسبب في موت والدتها أمام عينيها، وهذا طبعا من حقها، تقول المختصة النفسانية. وفي كتابها «العلاج بفن الرسم» الذي هو في الحقيقة عبارة عن حكايا الأطفال، تشير المختصة النفسانية أنها استجمعت ما رواه لها الأطفال كعينة لدراستها، واستغلت الشرح كما جاء على لسانهم بدون أي إضافات ولا تصحيحات؛ «ليس لي الحق في استبدال الكلمات أو حتى إضافة ألفاظ أخرى، وإنما الأمانة تقتضي مني أن استمع إليهم وهم يعبرون عن رسوماتهم، وقد ذهلت، أحيانا، من مقدرة بعضهم عن تجاوز تلك العقبة المصيرية من حياتهم، فبنت في ال 11 من عمرها، صرحت لي بأنها خضعت لعلاج نفسي عندما كانت تقطن في خيمة، مباشرة بعد الزلزال، وقد تمكنت بعدها من مساعدة بعض زملائها، وهذا في حد ذاته إنجاز رائع يحسب لها، لأنها تحمل نظرة تفاؤلية في الحياة، تشرح المختصة، مواصلة؛ الهدف من كل هذا في الحقيقة هو إرجاعهم للحياة، لأن العلاج النفسي لا يتضمن فقط الغناء أو النزهات، وإنما أيضا الرسم لإخراج المكنونات والتعبير عنها بالريشة والألوان.. فللطفل نفسية تفوق نفسية الإنسان البالغ من حيث الحساسية والشعور، ويعبر عنها بشكل إرادي أو لا إرادي، ولعل أكثر وسيلة يعبر بها عن شعوره هو الرسم، تقول فاطمة رحال زرهوني التي إلى جانب كونها مختصة نفسانية فهي فنانة تشكيلية، عرضت لوحاتها الأولى في سنة 1964، وكانت تجربتها الأولى الرسم الزيتي باستعمال جميع التقنيات، مثل الصباغة المائية والرسم على الزجاج. وقد سمح لها تكوينها في علم النفس بأن تكون في اتصال دائم مع الشباب والأطفال، معتبرة أن فن الرسم والتلوين في مراحل الطفولة المبكرة وسيلة فعالة لفهم مكنونات الأطفال، دوافعهم ومشاعرهم، حيث يفرغون على الورق ما يجول بداخلهم، ويرسمون أحلامهم، أمنياتهم ومستقبلهم الذي يطمحون إليه، وبالتالي يمكن أن يكون الرسم بمثابة أداة لتحقيق التواصل معهم. أما عن سبب تأخر صدور كتابها الذي أطلقت عليه تسمية «المعالجة بفن الرسم»، فإنها ترجع ذلك لغياب مصادر التمويل، وتؤكد أنها تتنازل عن كل مداخيل هذا الكتاب المتخصص لصالح إنشاء مركز ثقافي خاصة بالطفل الجزائري، «يجب خلق طفل جزائري ذواق للفن الأصيل، أي أن يتذوق من الرسم ومن الموسيقى المحلية وحتى من الحكايا الشعبية الكثيرة بمجتمعنا.. «بَركات» من استيراد الثقافات الأخرى، لأن مجتمعنا يزخر بالكثير من الأشياء الأصيلة التي من الممكن أن تصنع طفلا جزائريا مشبعا بالقيم الحقيقية لمجتمعنا، وليس بتلك التي تبثها كرتونات الفضائيات في عقولهم»، تقول فاطمة رحال زرهوني.