أجل، رحلت خديجة بقطاش، المجاهدة في الولاية الرابعة والمؤرخة والمربية في قطاع التعليم منذ عام 1959 إلى آخر نفس من أنفاسها في هذه الدنيا الفانية! أبصرت بك، يا أختي العزيزة، تتقاتلين مع المرض، صابرة، جلدة، لا تلين لك قناة أمام جحافله الزاحفة، ورأيتك في لحظاتك الأخيرة وأنت ترتحلين في صمت ودون أن ترسلي شكاة أو أنينا، وتلك خصائل المؤمن الذي يتقبل بصدر رحب مقادير ربه. وهل نحن، يا أختاه، إلا من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ وقبل ذلك، رأيتك تكدين من أجل اكتساب المعرفة منذ أن وعيت ما القراءة وما الكتابة، أي منذ عام 1948 وأنا في الثالثة من العمر، وكنت، على غرار المجاهدات من بنات جيلك العظيم، وهو والله لجيل عظيم حقا وصدقا، تعملين بخالص النية في سبيل تلقين أبناء الجزائر الطالعة مباديء التاريخ وقواعده. وراقبتك عن كثب وأنت تعدين شهادة الإجازة في التاريخ، ثم شهادة الماجستير في موضوع هو من أخطر المواضيع التاريخية وأجلها في الجزائر الجديدة، وأعني به موضوع «حركة التبشير في الجزائر ما بين 1830 و1890” تحت إشراف الأستاذ القدير والمؤرخ الجليل، الدكتور ”أبو القاسم سعد الله”، جزاه الله خيرا على أياديه الفاضلة الجميلة، عليك وعلى هذه الجزائر، وعلى أمة العرب والمسلمين قاطبة. ولكم كنت أتمنى تقديم يد المساعدة لك عندما كنت تنبشين بطون الكتب القديمة، وتتحملين مشاق السفر إلى باريس وغيرها من المدن الأخرى التي تضم نفائس الكتب في موضوع التبشير. ولكم أشفقت عليك، يا أختاه، عندما كنت تجابهين الصعاب في سبيل استكمال بحثك. ومتى كان المبشرون وبقاياهم يقدمون المعلومات عن أفعالهم في هذه الأرض وهم يتشبثون بأفكار عفى عليها الزمن؟ رأيتك تنكبين على بعض الأوراق القديمة التي نالت منها الرطوبة، تحاولين فهم ما جاء به هذا المؤرخ أو ذاك في مضمار بحثك، وتطلبين مني أن أساعدك في ترجمة هذا المقطع أو ذاك، من هذا الكتاب أو ذاك، حتى تكتمل أمامك الصورة التي تريدين رسمها بكل وضوح من أجل أن يطلع الإنسان الجزائري على حقيقته وعلى أصوله وهويته الحضارية العربية الإسلامية. وما كان أشق تلك اللحظات عليك، وعلى المرحومة والدتنا، وهي تراك تنتقلين من مكان إلى آخر في سبيل جمع كل ما له صلة بموضوع بحثك، سواء من بطون الكتب، والمكتبات، أو من أفواه بعض الأساتذة. وقد جاء بحثك العلمي إلى الدنيا بعد طول مخاض، وطربت معك أيما طرب عندما صدرت الطبعة الأولى منه، ثم الطبعة الثانية على الرغم من أنني كنت أود نقله إلى اللغة الفرنسية على سبيل تزجية الشكر لك ولكل من عضدك في بحثك الشاق ذاك. ولكن، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن! ورأيتك أيضا وأنت تجمعين الوثيقة تلو الوثيقة كل أسبوع لكي تعرضيها في برنامجك الإذاعي الأسبوعي. وما كان أروع تلك اللحظات حين أبصر بك مثل نملة جادة تدققين في هذه الجملة وفي ذلك التعبير حتى يتسنى لك أن تبلغي آذان المستمعين دون جهد أو عناء. فلقد تعلمت أن كل شيء في هذه الدنيا ينبغي أن يسير وفقا لقوانين وضوابط محددة. وأبصرت بك بعد أن طوحت بك ظروف التفتيش التربوي إلى ولاية عين الدفلى أيام كان الإرهاب يصول ويجول على هواه، وأيام كان العديد من دعاة التقدمية والوطنية –وأنا أقولها هاهنا دونما مواربة- يختبئون في مكاتبهم الوثيرة بالعاصمة، ويقذفون بامرأة مثلك بين أشداق الإرهاب، قبحهم الله جميعا، وقبح مساعيهم القذرة، وقبح كل من اختفى في داره أو ذهب إلى أخواله وأعمامه في فرنسا! وأنا، أخوك، مرزاق بقطاش، لن أغتفر لهم سلوكهم الأهوج الجبان. كلهم كانوا يدعون محاربة الإرهاب، لكنهم كانوا يتمسحون بأعتاب فرنسا، بينما كنت تتوجهين إلى عين الدفلى، وتطوفين بمدارسها وثانوياتها في قطاع التعليم. وهل كانت المجاهدة في الولاية الرابعة تخاف كمشة من الحقراء الإرهابيين، ومجموعة من المتخاذلين الذين يدعون التقدمية ومحاربة التخلف؟ هل كانت مثل هذه المجاهدة النبيلة تخشى من يتمرد على إرادة الخالق ويذبح الأطفال والنساء ويروع الشيوخ؟ كلا، وألف كلا، فأنت بنت من بنات ”مدرسة التهذيب العربية”، أي من بنات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عليهم رحمة الله الواسعة. لقد كنت تلميذة نجيبة في تلك المدرسة التي أخرجت عددا من الإطارات التي اضطلعت بشأن الجزائر بعد الاستقلال في الصحافة والطب والمحاماة والتعليم وغيرها من الشؤون الاجتماعية الأخرى. تربيت في أحضان الأستاذ محمد الحسن فضلاء، والشاعر المجاهد الحفناوي هالي والشيخ عمر نوار والأستاذ عبد الرزاق الزواوي وغيرهم من العلماء المجاهدين، وزاملت المجاهدة فريدة سحنون التي استشهدت في الولاية الثالثة عام 1959، والمجاهدة نادية حفيز، أول ممرضة من ممرضات جبهة التحير الوطني أيام معركة الجزائر العاصمة وفاطمة الزهراء حموش وفاطمة الزهراء عرابديو وفاطمة الزهراء مداد وغيرهن من بنات الجزائر العظيمة، وما أكثرهن! ولكن المقادير هي المقادير، يا أختي، وإنه ليشق أن أذرف دمعة الوداع في رحيلك هذا. وهاأنذا أردد الآية الأخيرة من سورة ”الفجر”: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) عليك رحمة الله الواسعة، يا أختاه!