حين قرأت لأول مرة قصص الكاتب الأرجنتيني، جورج لويس بورجيس ”1899-1986”، تساءلت بيني وبين نفسي: وما الذي يفعله هذا الأديب الضرير في نطاق الحضارة العربية الإسلامية مع أنه أبعد ما يكون عنا لحما ودما؟ لكنني حين عاودت قراءته في ترجمات مختلفة بالعربية وبالإنجليزية، تبين لي أنه منا حقا، وأن فيه شيئا من بقايا الإرث العربي الإسلامي الأندلسي. فعلى الرغم من تمكنه من الفرنسية والإنجليزية وقراءاته في آداب عدد من اللغات الأوربية القديمة، آثر أن ينأى بنفسه وبعقله عن مجريات الحياة في العالم الغربي برمته، وأن يستقي عددا من مواضيعه القصصية من التراث العربي في المقام الأول، وأن يطعم قصصه هذه بعينات من هذا التراث. وتبين لي بعد ذلك أنه إنسان يعتريه قلق وجودي كذلك الذي ينتاب فلاسفة الوجود بدءا من ”إيمانويل كانط” و”كيركجارد” و”جابرييل مارسيل” و”جان بول سارتر” و”ألبير كامو” وأضرابهم. لكنه يتميز عنهم بما يشبه الحنين إلى بعض الجماليات التي تعتقت في خوابي الزمن، ومنها، الجماليات العربية الإسلامية. ولذلك، فأنا أتساءل الآن: لماذا لم يهتم أدباء المهجر في أمريكا اللاتينية بهذا الأديب مع أنه كان أقرب أدباء العالم إليهم جميعا، وإلى انتمائهم الحضاري؟ ولماذا اهتم أدباء المشرق العربي ومترجموه بما كان ينشر من أدب في العالم الغربي في المقام الأول بدلا من أن يولوا اهتمامهم لما كان ينشر في أمريكا اللاتينية وبعض أماكن الدنيا في آسيا وفي إفريقيا بصورة عامة؟ وخلصت إلى القول بيني وبين نفسي بأن طغيان الإعلام والدعاية في هذا الشأن هو الذي كانت له الغلبة دائما وأبدا. فلقد رأينا منذ أواسط الخمسينات من القرن المنصرم من يهتم بالوجودية وبالماركسية ثم بالبنيوية والحداثة وغيرها من التقليعات الفلسفية الكبرى التي عالجها مفكرو العالم الغربي. لقد انساق أولئك الأدباء كلهم وراء الضجيج الدعائي والإعلامي، ولم يكن من عذر لدى البعض منهم سوى أن بعض المفكرين اليساريين والوجوديين ساندوا بعض القضايا التحررية في العالم دون غيرها من القضايا الأخرى. كنت أتمنى، على سبيل المثال لا الحصر، أن ينكب بعض أدباء المهجر في أمريكا اللاتينية على نقل بعض الأدب المكتوب في تلك الأصقاع إلى اللغة العربية، وأدب جورج لويس بورجيس، على وجه الخصوص بحكم توظيفه لجوانب من هذا التراث العربي الإسلامي سواء منه ذلك الذي ازدهر في الأندلس أو في العالم العربي برمته. لكنهم لم يفعلوا، ربما لأنهم انشغلوا بأمور أخرى، هي أمور العيش فى الدرجة الأولى والحنين إلى أرض أجدادهم. وهاهو اليوم، الكاتب البرازيلي، كويلهو، يجدد العهد مع بورجيس فيعكف على صياغة عدد من رواياته انطلاقا من التراث العربي الإسلامي الأندلسي ومن التراث الفرعوني القديم. وها هم أدباء العرب ومترجموه لا يهتمون به سوى لأن العالم الغربي صار يهتم به ويبوئه مكانة الصدارة في الترجمات التي يصدرها بين الحين والآخر عن أدب العالم المقهور. إن لدى جورج لويس بوجرجيس، مثلما قلت، شيئا من بقايا التراث الأندلسي، شيئا من عبق تلك الحضارة التي ازدهرت في الصقع الجنوبي من أرض أوربا، وليس بمستبعد أن يكون اهتمامه هذا وراء إقصائه من جائزة نوبل للآداب بالرغم من أنه كان جديرا بها كل الجدارة. وإنني لأذكر في هذا المقام حادثة طريفة وقعت لي في جويلية من عام 1969، في أروقة نادي الصنوبر بالجزائر وبمناسبة المهرجان الإفريقي الأول. جاء أحد المترجمين من الأرجنتين يسألني عن بعض الجوانب الحضارية الإسلامية، وكان طاعنا في السن ومنفيا في الوقت نفسه من الأرجنتين، فأبديت بعض الشك في سؤاله وفي بعض الأحكام التي أصدرها، غير أنه انبرى يقول لي بقوة: المستقبل لهذه الحضارة، أي للحضارة العربية الإسلامية! فوا عجبا منا جميعا، ووا عجبا من جهلنا بالكثير من الحقائق التي ترتبط أشد الارتباط بوجودنا وبمكانتنا الحضارية في هذا الزمنّ! وواعجبا منا جميعا لأننا ما عدنا نحمل في أعماقا ذلك الشيء الأندلسي الجميل الذي يفترض فيه أن يظل نابضا بالحياة!