يرحل شاعر طالما حمل الحلم في كفيه وفتح عينيه نافذتين على فجر تسربل بالأمل، شاعر يزرع الكلمات في طريقه لتنبت في قلوب الشباب العربي شجرة للثورة وثمرة للحرية، يمضي وفي عينيه كحل من جميلات الجزائر وفي صدره انفجار البراكين، هو ذا الشاعر الذي لزم شعره الثورة، حيث شبّ وشاب عليها، وها هي أصوات الثائرين والشهداء تستدعيه للاستراحة بعد أن أتعبه سير 92 سنة أمضى نصفها عصفورا يتنقل ويغني بين أدواح الثورات العربية، أطبق شفتيه يوم الجمعة على قصيدة عيد لم تكتمل وسورية تنزف، ورياح الفتن تعصف، فهل من عازف يؤدي ترنيمة للسلام ويتلو فاتحة للحب؟. شاعر كرّمته الجزائر يوم وضعته في طبقة الشعراء الذين جاهدوا بالسيف والقلم، كرّمته في قمة أوراسها المطلة على خليج عاصمتها البيضاء، وهي تستقبل الأميرين أبو فراس الحمداني الذي أكدّ في جهاده أنه لا مكانة وسطى حين قال: “نحن قوم لا توسط بيننا.... لنا الصدر دون العالمين أو القبر”، والأمير عبد القادر الجزائري الذي كان يسكن ظهر حصانه ويستضيء ببريق سيفه، ويتعطّر بنقع المعارك من أجل حرية وطنه. يرحل سليمان العيسى متعبا بمشاكل عروبته وأمته، ينزف صمتا مستصرخا أمله الذي ضل الطريق إليه. تعوده على فراش مرضه جميلة بوحيرد وهي تطل من جبال جنوب لبنان على ثرى فلسطي،ن وتؤكّد أنّ معركتها لم تنته بعد وفلسطين وليلى خالد والفجر في حصار يتشبث بأطفال غزة.. هو ذا سليمان العيسى يقتحم الجدران الصلبة، ينتزع الأبواب ويقتلع الأبراج، ويرى عينيها المكحولتين بالأمل والكبرياء فيقول: ”أين مني عينان خلف جدار السجن مكحولتان بالكبرياء وجبين وألف نجمة صبح لألأت فوق جرحه الوضاء أين مني جميلة تزأر السا حات من صمتها بألف حداء أيّ سر هزّت به الشفة السمراء قلب الدنيا بغير نداء” شاعر الشباب الذي ظل ينشد للثورة ويعانق المستقبل، يرحل على أناشيد قصائده التي سكنت القلوب ولازمت الثوار في كل قطر من أقطارنا العربية، كيف لا وهو القائل: ”يا بسمة جديدة في شفة الخلود لكلّ ما في الغد من يغمى، ومن وعود لكلّ ما نصبو له، وما صبا الجدود أنت وأترابك، والجزائر الوقود” سليمان العيسى الذي حمل على ظهر عمره تعاسة الأمة واستوطن جراحها الفاغرة ووقف ليدفعها إلى الثورة على الاستعمار، واستوقف لها الأمم محييا أمجادها وتاريخها المتخم بالبطولة والتضحيات حين صرخ قائلا: ”يلقاك بالدمع، دع الثورة النغم يا أمة في الزنود السمر تبتسم هتفت بالشعر استسقيه قافية حمراء فانفجرت في أضلعي الحمم” ولد سليمان العيسى في قرية النعيرية في لواء اسكندرون عام 1921، حفظ القرآن الكريم، كماحفظ ديوان المتنبي وعيون الشعر العربي، سجن سليمان العيسى أكثر من مرة بسبب مشاركته في النضال الوطني السوري زمن الانتداب الفرنسي، أوّل ديوان صدر له “مع الفجر”، ومن ثم أصبح عازف ألحان التحرير العربي شعرا وقافية، رحل سليمان العيسى أول أمس الجمعة عن عمر يناهز اثنين وتسعين سنة، فرحم الله شاعر الدم وصرخات الحرية.