هاهي خمسون سنة تمر وهي بحجم ثمراتها وعثراتها وما قُدم فيها وأُخر. خمسون سنة تمر ونقول فيها: «إن دولتنا أرست معالم كبرى في التربية والتعليم، وعملت على إقامة المؤسسات التربوية، وسعت لمحو تركة الاستعمار بالفعل والقوة، وهي خطوات جبارة، فلا يمكن أن ننكر تلك الجهود التي تصرَف على الوزارات المعنية. ولقد ظلت السياسة التربوية على مدى خمسين سنة، تعمل على تجاوز الصعوبات والأزمات، وتقترح الحلول النوعية رغم كثرة الإكراهات والمضايقات، ومع ذلك بنت بلدنا محطات مضيئة في مسار التربية والتعليم. وهذه النقطة تثير فيَّ كلاما آخر للحديث عن تدنّي المستوى اللغوي؛ فله أسبابه الكثيرة، والسبب المباشر هو افتقار الكثير من المعلمين إلى الزاد اللساني، ومن هنا نرى القصور في طرائق التلقين وفي عدم متابعة الجديد، والقصور في مسائل التقويم، ويُطلب من الإصلاحات التربوية أن تعدّ لنا معلّما له القدرة على الكتابة الصحيحة، وله من المعارف العامة القدر الكافي، معلّما مستخدما للمهارات اللغوية كتابة واستماعا، ومنميا للحس الجمالي والتفكير النقدي، وكاشفا للمواهب الأدبية وعاملا على تنميتها، وهذا كله جيد ولكنه يتطلب النظرة العلمية الجادة لبناء معلّم في مستوى الحدث؛ لأن سيرورة الإصلاحات لا تكون بمعلّم فاقد للزاد المعرفي أو بمعلّم فاشل، فتحتاج الإصلاحات التربوية إلى معلّم متمكن من مادته، متمكن من مهارة التواصل بلغته أوّلا، وبإحدى اللغات الأجنبية ثانيا، معلّم له من المعارف العامة، متمكن في تكوينه، مرن في انتقاء الطرائق والأساليب ضمن ما تستدعيه الحال والمقام والمستوى، مركّز على الجوانب التطبيقية، معلّم يجيد استعمال التقنيات المعاصرة، معلّم يقف على راهن الشابكة، يسبح فيها ويعوم، ويعود بدرر وقيمة مضافة لما يعطيه للتلميذ بشكل يلاحق العصر... فأقول: أنقذوا مدارسنا من مخرجات هزيلة!
3 /5. غياب الحديث عن تنويع لغات التعلم والبحث التربوي: تحدّث الإصلاح عن الرفع من قيمة اللغة الفرنسية فقط، وأعتقد أن الإصلاح لم يكسب القيمة المضافة؛ كونه حجّم نفسه في لغة واحدة، ويكون بهذا قد جسّد النزاعات الجزئية التافهة على حساب الرهانات المنتظَرة، كما جسّد الانغلاق على حساب الانفتاح على الكون بجميع قيمه الإيجابية ولغاته، فتبنّي اللغة الفرنسية فقط لغة أجنبية يقع الاهتمام بها على حساب لغات العلم، لا يعني أن الفرنسية سوف تنقلنا إلى مصاف أهلها، بل نحن نبقى نحن، ولا يمكن أن نكون فرنسيين، فإذا لم نبدع بلغتنا فلا يمكن أن نبدع بلغة الآخر، وننسى أن الفرنسية لها المقام منذ الاستقلال في محيطنا وواقعنا؛ فماذا قدّمت لنا؟ نحن في عصر نحتاج إلى الانتماء الإيجابي، انتماء نفعيّ معاصر. اللغة الفرنسية سلعة ضيّقة، فالفرنسي يبيعك سلعته بلغته، والأمريكي يبيعك ذات السلعة بغير لغته، وقواعد الاقتصاد تقول: «تبيع بلغة المستهلك». الفرنسيون يخاطبون الشعوب بالفرنسية فقط، وعليهم أن يفهموا، والإنجليز، مثلا، يخاطبون الشعوب التي استعمروها بلغتهم الوطنية. استعمالنا للفرنسية استعمال نخبوي، فالغلاف اللغوي الأجنبي له تأثير، فما هو الغلاف الأمثل لنا؟ لا أقول إننا منهزمون وعلينا أن نحتمي بلغة علمية أجنبية، ربما يكون هذا، ولكن علينا أن نختار التعدد اللغوي النفعي، وهو الأمثل لنا ولأولادنا وللتفتح العالمي، فكفانا قوقعة في لغة لا يتكلمها في العالم أكثر من 160 مليونا، وعلينا أن نفهم أن العالم تتجاذبه لغات العلم المعاصر، ولغات العلم المعاصر لها مواصفات ومواقع في المنتوج العلمي والأدبي والفني، وكان علينا اختيار الأفضل؛ أن نكون مثل العالم الذي يستعمل الآن اللغة الإنجليزية؛ كونها لغة العلم المعاصر بلا منازع، فالإنجليزية لها السيادة في الإلكترونيات، و80٪ من صفحات المواقع المتوفرة على الشابكة مكتوبة بالإنجليزية، كما أن لها مواقع حساسة؛ بصفتها اللغة الرسمية لكثير من الشعوب والدول خارج بلادها، ولها المقام العلمي الذي لا تتوفر عليه أية لغة أخرى. «وفي هذا المجال تحتل الإنجليزية المرتبة الأولى؛ فهي اللغة الوحيدة بين جميع اللغات العالمية التي تستخدم لغة رسمية في قارات العالم كافة، حيث يبلغ عدد الدول التي تستخدم اللغة الإنجليزية لغة رسمية 59 تسعة وخمسين دولة، وهو أكثر من ضعف عدد الدول التي تستخدم اللغة العالمية الثانية، وهي الفرنسية، إذ يبلغ عددها 28 ثمانية وعشرين دولة»؛ أما آن لنا أن نختار الجيد واللازم لواقعنا اللغوي ولمستقبل أولادنا في اندماجهم العولمي؟! ويقودني هذا إلى الحديث عن لغة البحث العلمي، فهي نفس الشيء، حيث إن البحث العلمي كان يجب أن يُستزرع باللغة الوطنية، ولا مانع من الاقتباس باللغات الأخرى بعد استيعابها في لغتها الأصلية، بل إن مردود التربية في الوطن العربي يبقى ناقصا إذا لم يتحكم المتخصص في اللغة الألمانية؛ باعتبارها لغة الديداكتيك بلا منازع. وبات حريّا أن ننقل العلوم في ميدان البحث التربوي من هذه اللغات في المقام الأول؛ بغية توطينها باللغة الوطنية، وتلك سمة الأخذ والعطاء بين اللغات. والمشكلة التي نعانيها نحن، أنّا نأخذ عن تلك اللغة التي تأخذ أو تترجم، فيأتي إلينا العلم متأخرا، فبعدما يترجَم إلى الفرنسية نترجمه عنها؛ على اعتبار أنها الوسيط، ولا بد أن العلوم تمر عبرها، وهنا العقدة النفسية التي نعانيها؛ وبذا ضاع البحث التربوي في أصله وفي اللغة المنقول إليها.
3 /6. عدم إغماس التلميذ في المعلوماتية: فيلاحَظ أن التلميذ لم يعامَل علميا ومنهجيا ومضمونا بأنه ابن العصر وابن الآلات المعاصرة، فلم يتحقق وجود الحد الأدنى من مشاهدة هذه الآلات في مدرسته، بل عند معلمه الذي مايزال يستعمل الأدوات القديمة، والتي عفا عنها الزمان، فمدرستنا الجزائرية التي أجهز عليها الخطاب الرسمي بأنها تمتلك أدوات: الكبتار، الشابكة، آلات العرض، آلات التصوير... خطاب استهلاكي لا غير، فمدرستنا ماتزال تعتمد على السبورة والكراريس والكتب التي أقضّت مضاجع التلاميذ، والواقع في المحيط غير ما يدرَّس في المدرسة، و»فاقد الشيء لا يعطيه»؛ ألم يحن الوقت للخروج من التاريخانية المجسّدة لعصر الضعف؛ أمانزال في عصر الأتراك؟ وبدون وضع التلميذ في محيطه الاجتماعي المعاصر يكون فاقدا للثقة في مدرسته وفي معلّمه؛ حيث المفارقة قائمة بين الواقع وبين ما يشاهده من دعاية وما يراه في الإعلام من وسائط مذهلة؛ فشتان بين القول والفعل!../.. يتبع