”الزنزانة 2455، رواق الموت”، هذه رواية قائمة على سيرة ذاتية للأمريكي كاريل شيسمان الذي أُعدم عام 1960 في الولاياتالمتحدة، بعد أن أمضى اثني عشر عاما ينتظر تنفيذ الحكم في حقه. قرأتها في ترجمة عربية عام 60 وأُعجبت بها أيما إعجاب، ربما لأنني كنت أحب متابعة البطولات الخارقة في الأدب العربي وفي الأدبين الفرنسي والأمريكي. ثم إنني أعدت قراءتها عام 70 في ترجمة فرنسية، لكنني لم أكمل قراءتها؛ لأن الكتاب وقع مني صوب البحر، ولم أستطع استعادته من الأعماق. وكنت بين هذا وذاك قد تفرجت على فيلم أمريكي مأخوذ عن هذه الرواية. وها أنذا أعيد قراءتها اليوم في أصلها الأمريكي، فأُعجب أيما إعجاب بأسلوب الكاتب، ذلك الذي بدأ حياته صعلوكا وقاطع طريق، وانتهت به الحال إلى أن يصير أديبا عالميا. قيل عن كاريل شيسمان إنه ارتكب العديد من الجرائم الأخلاقية، لكن لم يتم تقديم الدليل على تلك الجرائم، خاصة منها جريمة الاغتصاب التي أُدرج السجن بسببها عام 47 وحُكم عليه بالإعدام، وظل ينتظر أكثر من عقد كامل تنفيذ الحكم فيه. ويقال إن الرئيس جون كنيدي الذي انتُخب على رأس الولاياتالمتحدة عام 60، استاء أيما استياء بعد أن بلغه خبر تنفيذ حكم الإعدام في حق شيسمان. وقد جرت العادة في الولاياتالمتحدة أن يخفَّف عبء الحكم بالإعدام ويحوَّل إلى السجن المؤبد. ويزعم بعض أهل الأدب أن كنيدي قال يومها ما معناه: لو أنني علمت بحكاية شيسمان لكنت أفرجت عنه. أمريكا لم تغتفر لشيسمان جنحه العديدة مع أنه انتقل من النقيض إلى النقيض؛ أي من الصعلكة في صباه وشبابه إلى الأدب خلال إقامته بالسجن، بل إنه صار رجل حقوق يدافع عن نفسه بنفسه مرات ومرات دون الاستعانة بأي محام؛ لأنه أمضى حياته في السجن يدرس القانون ويقرأ الأدب الأمريكي، وهكذا نرى أن أمريكا كانت قاسية مع هذا الأديب ونزلت عند تقاليدها المعروفة عنها. كان من حق شيسمان أن تستمر به الحياة، لكن التقاليد الأمريكية كانت أقوى منه ومن أدبه ومن القانون نفسه. وما أكثر ما لقي العديد من الصعاليك الأمريكيين حتوفهم في غرف الغاز مع أنهم أمضوا سنوات طويلة من أعمارهم في السجون، ينتظرون تنفيذ الأحكام في حقهم ويحولون مجرى حياتهم! أولئك الصعاليك ومن بينهم شيسمان، تغيروا التغير كله أثناء إقامتهم بالسجون، وبعدت الشقة بينهم وبين أساليب العيش التي كانوا يمارسونها في شبابهم. أذكر في هذا الشأن ذلك الفيلم الأمريكي الذي يسمى ”ألكاتراز”، والذي اضطلع بدور البطولة فيه الممثل العبقري برت لانكستر. قصة هذا الفيلم شبيهة بقصة شيسمان وإن كان بطلها نجا من الموت في آخر المطاف، ومن غرفة الغاز. لقد كان مجرما في شبابه الأول وأُلقي عليه القبض وأُدرج في سجن ألكاتراز العتيد، الذي هو عبارة عن قلعة مبنية فوق صخرة غير بعيدة عن شاطئ سان فرانسيسكو. بطل هذا الفيلم يتحول شيئا فشيئا إلى عالم طيور، ويكتب كتبا عن الطيور تصير مرجعا بالنسبة لأهل التخصص هنا وهناك. ويسعى محاموه للإفراج عنه، لكن السجن أو قانون السجن كان أقوى منهم؛ بحيث أمضى قرابة أربعين عاما في زنزانة يدرس فيها الطيور التي تغامر بالدخول إلى أقفاصه العديدة المنصوبة في غرفته، ويؤلّف المقالات العلمية الدقيقة عنها. وعندما يفرَج عنه لا يكاد يعرف إلى أين يولي بوجهه؛ لأنه كان قد طعن في السن. كاريل شيسمان أُعدم عام 60 وهو في التاسعة والثلاثين. وكان من المنتظر أن يفرَج عنه؛ لأنه كان قد تحوّل إلى دنيا أخرى وصار أديبا مرموقا، لكن القانون هو القانون في الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ بمعنى أن من وقع تحت طائلته لقي مصرعه. في أمريكا يمكن لأي مواطن أن يسرق ويقتل ويختفي عن الأنظار والرقباء، لكن إذا ما وقع الكشف عنه ابتلعته دوامة القانون العاتية ولقي المصير المحتوم، وذلك ما حدث لكاريل شيسمان عام 60 وما حدث لنيكسون وغيرهما.