قرأت جميع ما وضعه الأديب الأمريكي إرنست همنغواي من مؤلفات في مجال الرواية والقصة القصيرة والتحقيقات الصحفية، بل إنني تابعت عن كثب جميع ما صرح به خلال حياته الأدبية الطويلة الثرية، إن في المجلات وفي الصحف والكتب، وإن على صفحات الأنترنت، لكنني وقفت عاجزا عن فهم سلوكه حيال الحضارة الإسلامية في أرض الأندلس. أجل، لم يقل عنها شيئا، ولم يكتب عنها شيئا بطبيعة الحال، بل فضّل التحدث عن الحرب الأهلية التي دارت رحاها ما بين 1936 و1939، ومصارعة الثيران. لم يتطرق ولو مرة واحدة لما يكون قد اطلع عليه في إسبانيا من معالم أثرية عربية إسلامية، فكان بذلك النقيض لقرينه الأمريكي الذي سبقه في مضمار الأدب بين أواخر القرن الثامن عشر ومطالع القرن التاسع عشر، وأعني به واشنطن إرفينغ. لم يقدّم همنغواي أوصافا عن حلبات مصارعة الثيران في كامل أنحاء الأرض الإسبانية، مع أنها كانت ذات شكل هندسي دائري يذكّر بالكعبة المشرّفة وبتخطيط المدن الإسلامية الأولى مشرقا ومغربا. ولم يصف لنا قرطبة ولا إشبيلية ولا غرناطة وما شابهها من مدن إسلامية عربية في جميع أرض الأندلس، ومع ذلك فأنا لم أصل إلى الحكم عليه بأنه عنصري أو قريب من أصحاب السلوك العنصري. قرينه واشنطن إرفينغ وضع كتابا جميلا عن رحلاته الأندلسية في مطالع القرن التاسع عشر، وأسهب في الحديث عن مآثر الحضور العربي الإسلامي في إسبانيا. وصار كتابه قطعة من أجمل القطع الأدبية التي يقرأها الإنسان الغربي عن الحضارات الأخرى التي تجاورت مع الحضارة اليونانية اللاتينية المسيحية. ولم ينهج همنغواي هذا الصنيع في جميع ما كتبه بالرغم من أنه ظل يعايش الأندلسيين طيلة أربعين عاما، أي منذ أن وضع روايته الأولى ”ولاتزال الشمس تشرق” إلى روايته الشهيرة ”لمن تُقرع الأجراس”، ثم كتابه الذي صوّر فيه التنافس الذي حدث بين اثنين من كبار مصارعي الثيران في إسبانيا عام 1958، وسماه ”الصيف الخطير”. التفسير الوحيد الذي قدمته في هذا الشأن هو أن همنغواي، في الظاهر، كان معنيا بنفسه في المقام الأول والأخير، ثم بتطبيقاته النفسية في مجال الواقع؛ أي مصارعة الثيران والصيد البري والبحري والملاكمة وساحات الحروب، في نطاق الطابع الحضاري الغربي برمته. هل كان هذا الموقف متعمدا من جانبه أم هو صادر عن جهل منه؟ إننا في حاجة إلى التمعن في مثل هنا الموضوع ضمن نطاق الأدب المقارن. وأعترف بيني وبين نفسي، بأن همنغواي كان موضوعيا عندما كتب تحقيقه الشهير عن الحرب التي دارت رحاها بين اليونان وتركيا عام 21. لم يقل شيئا سيّئا عن الجيش التركي الذي دحر اليونانيين في موقعة إزمير، بل اكتفى بتصوير فلول الناس الهاربين من الأرض التركية إلى جزر اليونان، وتحدّث عن الأوبئة التي انتشرت بين المهزومين، لكنه لم يردّ أسبابها إلى الأتراك ولا إلى أهل الإسلام. ووجدتني أقارن بين همنغواي والكاتب المصري يوسف إدريس، الذي زار إسبانيا لبضعة أيام، وعاد منها بمخطوطة رواية سمّاها ”رجال وثيران”، وما قدمته الدكتورة رضوى عاشور عن إقامتها بمدينة غرناطة، وما كتبه الدكتور عبد السلام العجيلي والأمير شكيب أرسلان وغيرهم. وخلصت هذه المرة إلى أننا كثيرا ما أهملنا جوانب عديدة في الأدب الغربي، عالج فيها أصحابها أفكارا وأوضاعا يجدر أن تكون محل أبحاث علمية في نطاق الأدب المقارن والتفكير السياسي والاجتماعي.