يتضمن الكتاب أعمال ندوة فكرية نظمها المجلس الأعلى للغة العربية، تحمل عنوان “أهمية التخطيط اللغوي - اللغات ووظائفها”، التي فتحت الكثير من المحاور قصد البحث والمداولة، مع التركيز على ضرورة التخطيط المرتبط بالمجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، علما أن التخطيط اللغوي لا يزال يعاني الإهمال، خاصة في المجال التنظيري والتطبيقي. شارك في هذه الندوة العديد من الخبراء والمترجمين وأساتذة الجامعات من الجزائر وتونس والمغرب، طرحوا العديد من المحاور ضمن لقاء علمي مختص، ومن بين المحاور المطروحة؛ مفهوم وأهداف التخطيط اللغوي وهو من المباحث الحديثة في اللسانيات الاجتماعية، ظهرت أدبياتها في منتصف القرن الماضي ووضع أسسه العلمية عالم اللسانيات النورويجي هاوجن في دراسة بعنوان “التخطيط في النرويج الحديثة” نشرت عام 1959 وساهم في تطويره لحل المشكلات اللغوية في البلاد المستقلة علماء. التخطيط من المباحث المتعددة الاختصاصات التي استفادت من التقدم الذي عرفته العلوم الاجتماعية، خاصة علوم الاقتصاد والنفس والتربية واللسانيات في القرن الماضي، هدفه وضع حلول للمشاكل اللغوية والتعرف العلمي على أوضاعها في المجتمع عن طريق المسوح اللسانية والعمل على تجديد تقعيدها أو تبسيطها وتقييسها ومعالجة طرق كتابتها وطباعتها وحوسبتها وتعميم استعمالها لغة جامعة في بلد متعدد اللغات أو فرضت عليه لغة أجنبية في مرحلة ما من تاريخه. أشار الدكتور محمد العربي ولد خليفة في مداخلته إلى أن من أهداف التخطيط اللغوي إصلاح اللغة من حيث المتن والتركيب ووضع قواميسها ومعجمها التاريخي وإثراء رصيدها العلمي والتكنولوجي وتوليد المفردات التقنية وتغذيتها عن طريق ترجمة مستجدات العلوم والفنون والآداب من مختلف اللغات التي تتصدر المقدمة في مجالات المعرفة والإبداع، علما أن العربية في حاجة ماسة إلى تحيين ثروتها وإشاعتها في المجتمع بالتعاون بين 3 قطاعات رئيسية، وهي التربية والتعليم العالي والإعلام والاتصال بكل وسائطه بما فيها الإشهار. هناك أيضا هدف آخر يتمثل في تنقية العربية من طغيان الكلمات الدخيلة على تركيبها الأصلي إذا وجدت مقابلات من اللغة الوطنية لحماية اللغة من التشوه في المبنى والخصائص الصوتية، لكن استعمال كلمات أجنبية معرّبة، مثل بنك وتلفزيون والاشتقاق منها، مثل بنكية أو متلفز فإنها غير مضرة لأن التبادل بين اللغات والاستعارة من بعضها البعض في حوض المتوسط وخارجه قديمة العهد، والحضارة الأقوى هي التي تفرض مصطلحاتها على غيرها. هناك أيضا التخطيط اللغوي بمعنى التهيئة اللسانية، وهو المصطلح المستعمل في المجال الفرنكوفوني منذ 1970، ويعني تدخل الدولة لحماية اللغة والدفاع عنها تجاه لغة أخرى منافسة كما هو الحال في مقاطعة “الكبك” الموجودة في قلب الجغرافيا الأنغلوفونية. المحور الثاني في الندوة (موضوع الكتاب) يتعلق بالخريطة اللسانية في الجزائر بعد الاستقلال، وبما أن اللغة ظاهرة اجتماعية لابد لفهم وضعها الراهن من التعرف على سياقها التاريخي، فتغير الواقع من وضعية لأخرى لا ينفي أن الماضي القريب والبعيد حاضر ومؤثر بدرجات مختلفة في جوانب من الواقع الجديد، لذلك من المفيد التذكير بذلك الماضي، فالجزائر هي البلد المغاربي الأول الذي تعرض لعدوان دمر كيانه وحل كل مؤسساته وجعل منه ملحقة استطانية، وقررت فرنسا بعد 6 سنوات احتلال، أن العربية هي لغة أجنبية بقرار رسمي وموثق وجعلت الفرنسية لغة الأقلية المحتلة، هي لغة الجزائر الرسمية وفرضتها بالحديد والنار، ولولا جهود الزوايا والكتاتيب التي كانت قلاعا ومخابئ للإسلام والعربية، ثم نضالات الحركة الوطنية ممثلة في “نجم شمال إفريقيا”، ثم “حزب الشعب” وصورته الأخيرة “الانتصار” و"جمعية العلماء المسلمين” لما بقي في الجزائر سوى عاميات مشوهة من نوع “الكريولية” المتداولة في جزر الكراييب. استعادت العربية بعد الاستقلال عددا من مواقعها الطبيعية، فهي لغة التعليم في كل مراحل النظام التربوي والتكوين وبعض الكليات، وهي اللغة الرسمية الوحيدة في البرلمان والقضاء وبدرجة أقل في الإدارة العمومية. المحور الثالث يتعلق بتجارب التخطيط اللغوي في عالمنا المعاصر، ومن بينها إحياء اللغة العبرية وتقعيدها، حيث اندثرت منذ حوالي 3 آلاف سنة، واستفاد اللسانيون الإسرائليون من التراث النحوي والصرفي، قواعد النحت والاشتقاق في اللغة العربية، وعمل المختصون اليهود في اللسانيات والمعجمين على تحديث العبرية، فلم تعد لغة العبادة فقط، بل لغة العلم والعمل والدولة. هناك أيضا تجارب أخرى في إسبانيا وفرنسا وبريطانيا والبلقان والولائيات المتحدة. أما العلاقة بين الوضع والاستعمال المقترح في المحور الرابع، وقد كانت من البديهيات منذ بداية الدراسات اللغوية في القرن الأول الهجري من علماء اللغة المسلمين، فعدم الاستعمال يميت الوضع ويحوله إلى ركام لفظي أشبه بعملة بلا قيمة ولا سوق، ومن الواضح، حسب الدكتور ولد خليفة، أن الاستعمال بلا وضع، أي بلا تنمية للثروة المعجمية ولا مساهمة في رأس المال الإبداعي في العلوم والفنون والآداب يؤدي إلى عجز اللغة عن الأداء في مستجدات الحداثة وألفاظ الحضارة التي يزداد تراكمها كمّا وكيفا في كل يوم. في هذا السياق، ينبغي التنبيه إلى أنه لا توجد لغة متقدمة أو متخلفة لذاتها، إن التقدم والتخلف من صفات أهلها واتهام العربية بالعجز والتخلف موجه أكثر لوضعيتنا في الركب الحضاري، وأن العربية مثل الإسلام مظلومة من المنتسبين إليها أكثر مما هي مظلومة من غيرهم. آخر المحاور في الورقة المقترحة هو التساؤل الثاني؛ هل توجد في الجزائر وربما في البلاد العربية الأخرى، سياسة لتعليم اللغات الأجنبية؟ ماهو الهدف من هذا التعليم؟ وأي اللغات يمكن أن تحظى بالعناية أكثر؟ هل هي لغات القوس اللاتيني، مثل الفرنسية والإسبانية والإيطالية؟ أم هي الإنجليزية لغة العصر والعولمة؟ إن تحديد تلك الوظائف يبدأ من إصلاح تعليم اللغة العربية الجامعة من ناحية المضامين والتعليميات لإتقان أساسياتها في نهاية التعليم الأساسي والتدريب على استعمالها في الإدارة وشؤون الحياة اليومية. من الغفلة التشكيك في أهمية معرفة لغة أجنبية -كما جاء في الكتاب - لكن اللغة الأجنبية ليست البديل عن اللغة العربية المشتركة والجامعة، كما أنه ليس من المطلوب أن يعرف كل المواطنين لغة أجنبية، بحيث يستعمل كل المواطنين العربية ولغة أجنبية بنفس الكفاءة، فالغالبية من الأمريكيين والأوربيين أحاديي اللغة. يبقى التخطيط اللغوي يعني دراسة علاقة اللغة بالمجتمع ومدى تأثر كل منها بالآخر، ويأتي في العادة لعلاج مقام اللغة الأم (هيمنة اللغة الأجنبية، الإزدواجية اللغوية، التعدد اللغوي، الثنائية اللغوية... ولوضع سياسة لغوية تقوم على مسطرة تراتب اللغات في الواقع، سواء بالقوة أو بالفعل، حيث يهتم بإنزال اللغات محالها المناسبة) بناء على النصوص القانونية. وللتخطيط اللغوي صور تطبيقات تتمثل في التقنية اللغوية، ترقية اللغة، وضع المصطلحات، نشر اللغة في الداخل والخارج.... وبذا يكون التخطيط اللغوي تدبير للتحول اللغوي الذي يحتاج إلى تشخيص المشكل وتحديد المتطلبات، إن لم نقل إنه القرار الذي يتخذه مجتمع ما لتحقيق أهداف وأغراض تتعلق باللغة التي يستخدمها، ليشير الدكتور صالح بلعيد أن ذلك يحقق القرار لكل ما يتعلق بعملية اللغة ودعمها وتعميمها.