استقبل فضاء ”بشير منتوري” مؤخرا الباحثين عبد الحميد بورايو وحميد بوحبيب، للحديث عن موضوع ”الوضع الحالي من أجل الحفاظ على الموروث الشعبي”؛ حيث ألح الباحثان على ضرورة النهوض بهذا التراث، الذي هو جزء من الهوية والتاريخ. يدخل اللقاء ضمن فعاليات نشاطات شهر التراث التي تنظمها مؤسسة ”فنون وثقافة”، والتي تحرص من خلالها على إثارة الاهتمام بموضوع حماية التراث الوطني. وفي مداخلته، أشار الباحث الدكتور عبد الحميد بورايو رئيس مخبر التراث الشعبي بجامعة تيزي وزو، إلى أنّ التراث كان دوما من اهتمام الجزائريين؛ باعتباره إثباتا لشخصيتهم الوطنية التي حاول المعتدون العبث بها. وركّز المحاضر في مداخلته على التراث غير المادي، ليستعرض مراحل تطوّره منذ العصور القديمة؛ أي ابتداء من القرن الثاني الميلادي، الذي شهد بروز جزائري من منطقة الأوراس يدعى ”أبوليوس”، كتب رائعته ”الحمار الذهبي”، التي تُعدّ أوّل رواية في تاريخ الإنسانية تُرجمت من العهد القديم إلى اليونانية والرومانية والمصرية القديمة، وتروي هذه الأسطورة أغوار النفس البشرية وتحكي الحب أيضا. المدهش - كما قال المحاضر - هو أنّ مخبره وطلبته اكتشفوا في أبحاثهم الميدانية، أنّ العديد من الناس في القرى خاصة ببلاد القبائل، يروون حكايات وأساطير شعبية مستوحاة من رواية ”الحمار الذهبي”، علما أنّ الباحث والمستشرق الفرنسي دومادور قام في الأربعينيات بنفس البحث، وجمع 150 حكاية من بلاد القبائل ومن مناطق الشرق الجزائري كلّها، ذات مصدر واحد، وهو ”الحمار الذهبي”. أكّد الدكتور بورايو أنّ التراث الشعبي الشفوي صعب من حيث التحصيل والتأطير والبحث؛ باعتبار أنّ لا قرائن مكتوبة له ما عدا في بعض الحالات، ليذكر بعض الأمثلة منها الأثر المكتوب ”كشف الرموز” لابن حمدوش، الطبيب العاصمي الذي عاش في نهاية القرن ال18، والذي ذكره الراحل سعد الله في كتابه ”تاريخ الجزائر الثقافي”. وقد طُبع الكتاب في العديد من المرات خاصة بالمغرب ولبنان. ويستعرض طرق العلاج عند الجزائريين (الطب الشعبي)، وهذا الكتاب الذي به مئات المخطوطات، انتقل منذ العهد العثماني إلى كافة الدول المغاربية. الأثر الآخر بعنوان ”المرآة”، وهو كتاب لحمدان عثمان خوجة، الذي كان أمين خزانة الداي حسين، وذكر فيه صور الاحتلال الفرنسي للجزائر، وتُرجم للعديد من اللغات، ورغم أنّه كتاب تاريخ لكن به جوانب مهمة ومفصّلة من الثقافة الجزائرية، بما فيها العادات والتقاليد، خاصة بمنطقة متيجة، مبرهنا أنّ الشعب الجزائري مختلف كلّ الاختلاف عن البلد المحتل فرنسا. شهد القرن ال19 أيضا ظهور دراسات لباحثين أجانب سبقوا الفرنسيين، منهم الألمان والأمريكيون، وتمحورت خاصة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ثم اعتمدت فرنسا على هذا العلم لتستغله في سياستها الاستعمارية المهيمنة. وقد تُرجمت العديد من هذه الدراسات الأجنبية من طرف الراحل أبو العيد دودو. وأشار المحاضر إلى أنّ فرنسا مع نهاية القرن ال19 وبداية القرن ال20، فتحت تخصص التراث واللهجات الدارجة بمدرسة المعلمين ببوزريعة. وتخرّج منها جزائريون خدموا التراث الوطني، منهم محمد بن شنب وابنه سعد الدين بن شنب وبوليفة. مصادر أخرى تضمّنت التراث، منها المجموعة الشعرية ل ”سونيك” سنة 1905، التي أصبحت مرجعا للشعر الشعبي للقرن ال19. وتوالت أعمال النشر منها تسجيلات إدموند يافيل، وإصداره كتابا سنة 1928، خاصا بالموسيقى الأندلسية، وكذا بوعنين الذي اهتم بقصائد الأندلسي. بعد الحرب العالمية الأولى ظهرت في الجزائر طرق مقاومة جديدة تبنّتها الحركة السياسية الوطنية، فشجّعت المسرح الذي استلهم مادته الفنية من التراث. كما ظهر فنانون رجعوا إلى التراث في إبداعاتهم، منهم الراحل الحبيب حشلاف وكمال حمادي، وظهر محمد بخوشة الندرومي، الذي طبع تراثنا الشعري بالجزائر، ثم بالمغرب، وعرف الناس بن مسايب وبن خلوف وبن سهلة وغيرهم. وأكّد المحاضر أنّ مرحلة الاستقلال تميّزت بالنظرة الدونية لهذا التراث الشعبي، وساهمت طبقة النخبة في تعزيز هذا التهميش، بمن فيها جماعة الفرنكفونيين؛ إذ تمّ القفز على هذا التراث واعتباره مجرد فلكلور، ولم يبق له مجال يظهر فيه سوى الإذاعة الوطنية وفي الجامعة. وبعد الانفتاح السياسي ونتيجة بعض المراجعات منذ منتصف الثمانينيات انتعشت هذه الثقافة من خلال الدعم، وأنشئت لها مراكز بحث بتلمسان وبجاية وتيزي وزو وغيرها، إلاّ أنّ هذا الدعم - كما يرى المحاضر - بقي مجرد حلول سياسية ينقصها التأطير العلمي. من جهة أخرى، ذكر المحاضر التزامات الجزائر ضمن الاتفاقيات الدولية التي وقّعتها، والخاصة بحماية التراث. في الأخير، أكّد الدكتور بورايو أنّ الدولة أنشأت مخابر ومراكز بحث، لكن عملها يبقى مختصرا، ملمحا إلى أنّ الكثير من هذا التراث في طريقه للزوال نتيجة غياب الجرد، وبالتالي العجز في عملية الحفظ. ركّز المحاضر الثاني الدكتور حميد بوحبيب، على تحديات العولمة التي تهدّد تراث وثقافة الدول الوطنية ذات الكيانات المختلفة، مذكّرا بأنّ لتطوّر الرأسمالية الدور الرئيس في تراجع هذا التراث؛ بحيث تدفّقت رؤوس الأموال والشركات منذ بداية القرن الماضي، وأنتجت مع سلعها قيما ثقافية جديدة، وبالتالي فقدت الدولة الوطنية هويتها الاقتصادية نتيجة الاستهلاك المنمط من أكل ولباس وطرق عيش، وأصبح الكل يفكّرون بنمط واحد، وهو ما ساهم في تعزيز عملية الانقراض للثقافات المحلية واللغات والهويات، وظهر التخوّف ليس من الانفتاح، بل من التنميط، الذي جعل الناس كالقطيع يشبهون بعضهم البعض، وأمام هذا الخطر ظهرت في الغرب ”العولمة المضادة” لرفض القالب الأمريكي. وخصّص الدكتور حميد بوحبيب الشطر الثاني من محاضرته للتراث الأمازيغي، مستعرضا جانبا منه (خاصة بالمغرب)، الذي لايزال موجودا بهولندا وإنجلترا وفرنسا، مؤكّدا أنّ هذا التراث غالبا ما كُتب بلغات ليست بلغته الأم. أمّا بالجزائر فقد ساهمت فرنسا الاستعمارية في تدمير هذا التراث، ثم ذكر نماذج بعض الدراسات لمستشرقين وباحثين أجانب، اهتموا بالتراث الأمازيغي، منهم أمرقام البلجيكي، الذي سجل تراث محند أومحند وكذلك بالنسبة لأندري باسي الفرنسي، وصولا إلى الباحثين الجزائريين منهم مولود معمري، ثم تشاكير وجون عمروش. أشار المحاضر إلى أنّ الثقافة الأمازيغية لا تنحصر فقط في اللغة، بل هي ثقافة متكاملة الجوانب، تنتشر أبجدياتها في كل مناطق الجزائر، مجسَّدة في الأعراف والتقاليد والأساطير والأعراس والممارسات اليومية، وبالتالي فهي تراث وطني مشترك.