لا يتوقّف الفنان التشكيلي عمور إدريس دكمان عن إبداع أعمال فنية، ومواصلة تحقيق حلمه في تقديم الجميل فنيا، خاصة أنّه يقتات من هذا الحب الذي اقترن بالمهنة، كيف لا وهو الذي ترك تخصّصه في الإنعاش ليقدّم روحه وجسده للفن التشكيلي.. ”المساء” التقت الفنان على هامش معرضه الأخير بالمعهد الفرنسي، وتحدّثت معه عن هذه الفعاليات وكذا عن مسيرته الفنية ورؤيته للفن التشكيلي في الجزائر، علاوة على مشاريعه في هذا المجال، فكان هذا الحوار. حدّثنا عن آخر معرض لك بالمعهد الفرنسي؟ اتّصل بي مدير المعهد الفرنسي بالجزائر وطلب مني التعبير فنيا وبطريقة خارجة عن المألوف، عن النجاح الباهر الذي حقّقه رجل أعمال فرنسي من أصول جزائرية، باختراعه حذاء هوائيا، وهكذا وجدت نفسي أقدّم فنا تركيبيا من خلال شخصيات كبيرة الحجم تعبّر عن الحركة، ترقص، تتحرّك وتحلم. كما قمت بتعليق ثلاثة نعال كبيرة الحجم، مختلفة الألوان، حتى تظهر الثقوب التي اشتهرت بها هذه الأحذية.
ألا يشعر الفنان بضيق وهو يقدّم أعمالا فنية تحت الطلب؟ قد يشعر بنقص في اللذة وهو ينجز أعمالا فنية تحت الطلب، لكن أن يشعر بالضيق فهذا ما لا أعتقده، وأقدّم مثالا عن الفنان الكبير ميكايل أنجلو، الذي شارك في تزيين كنيسة ”سيستينا” بطلب من القداس.. حقيقة أنا فنان يعيش من فنه، واضطررت كذا مرة لأن أرسم تصميما للمجوهرات والألبسة، ولتصميم شعارات مختلفة.
تعيش من فنك.. كيف استطعت أن تحقّق هذه المعادلة الصعبة جدا؟ أقتات من فني منذ 17سنة، وهو ليس بالأمر الهيّن أبدا، لكنني صمّمت على تحقيق حلمي رغم الصعاب. والبداية كانت بعرض أعمالي في الفنادق والمدارس والمراكز الثقافية، وشيئا فشيئا تمكّنت من صنع اسم لي على الأقل في العاصمة، وشيئا ما في وهران.. صحيح أنّني مررت ومازلت أمر بصعوبات كبيرة؛ فمثلا منزلي الذي أستأجره هو في نفس الوقت ورشتي والفضاء الذي أدعو إليه أصحابي كي يكتشفوا جديدي، أيضا مشكلة قلة الأروقة الفنية وانعدام سوق تشكيلي رسمي، تزيد من معاناة الفنان التشكيلي بالجزائر، وبالمقابل أرجو أن تتغيّر الأمور مع قدوم وزيرة جديدة للثقافة مع إمكانية تحويل مذابح العاصمة إلى ورشات فنية مفتوحة.
حدّثنا عن معرضك بألمانيا وتحت أي إشراف تمّ؟ أبدا، فلم يسبق لوزارة الثقافة أن أشرفت على أيّ معرض لي في الخارج، حتى إنّها لا تجيب على طلباتي في عرض أعمالي الفنية بالمتاحف. أمّا معرضي بألمانيا فكان بعد أن نظّمت معرضين في آن واحد، الأوّل بقصر الثقافة، والثاني بالمعهد الفرنسي بعنوان ”تحوّلات”، وهي عبارة عن لوحات تدور حول ربطة العنق، وهناك التقيت بمدير ”جييزات” (تعاونية جزائرية ألمانية)، اشترى مني لوحة، وقدّم لي دعوة عرض أعمالي بمتحف ”ماك”، وكان ذلك حيث أقمت معرضا بكولونيا مدة 21 يوما.
ولكنك تلقيت سابقا عرضا للمشاركة في معرض جماعي بمتحف الفنون الجميلة؟ هذا صحيح، كان ذلك بمناسبة الاحتفال بخمسينية استقلال الجزائر، ومع الأسف لم أتمكّن من الردّ إيجابيا على هذه الدعوة؛ لأنني أعيش من فني ولا أستطيع أن أنجز أعمالا تحت الطلب بالمجان، وبالمقابل لم أتلقّ أيّ رد على طلب العرض بمتحف الفن الحديث والفن المعاصر. وأعود للحديث عن قلة الأروقة بالجزائر، فحتى رواق الاتحاد الوطني للفنون والثقافة ”محمد راسم” الذي يقع في قلب العاصمة، مغلق في معظم الأحيان، في حين لا تلبي الفضاءات الثقافية العمومية الطلب، فمعظم عمّالها لا يحبّذون العمل المضني، وأتفهم موقفهم أمام أجورهم الزهيدة، كما إنّهم لا يقومون بمهمة الاتصال، ليجد الفنان نفسه وحيدا، علاوة على مشكلة عدم وجود فضاء لركن السيارة مثلا.بالمقابل، أردت أن أعرض لوحاتي 135 التي قدّمتها أمام الجمهور بقصر الثقافة، في عدّة ولايات من الوطن، ولكن من المستحيل تحقيق ذلك بسبب مشقة السفر وعدم دفع الجهات المتخصصة لنفقات التنقل؛ فأنا أعيش من فني ولا يمكن أن أعمل بالمجان مثلما كان عليه الأمر في السابق، خاصة أنّني على مشارف الخمسين من العمر، ولهذا نجد أنّ معظم الفنانين يعملون أيضا خارج الفن، ولكنني ضدّ من ينجز عملا أو اثنين أو ثلاثة في عام كامل رغم أنّني أتفهّم حسرة المتخرجين من مدارس الفنون الجميلة أمام الحياة الصعبة التي تنتظرهم.
تظهر شخصيات معرضك الأخير وكأنّها تحاول أن تطير إلى عوالم أخرى قد تكون واقعية أو حتى خيالية، فهل هي كذلك لأنّها تريد التغيير؟ أجمل ما في معرض الفنون التشكيلية رؤية الجمهور التي قد تكون مخالفة تماما لما عبّر عنه الفنان. صحيح أنّ الكثيرين أصبحوا يعيشون في العالم الافتراضي، وأرى أنّه من الضرر الكبير أن نترك أطفالنا لمدة طويلة أمام الإنترنت، وأتحسّر حينما أرى أناسا يشغّلون جهاز التلفاز للضيوف؛ فأين هو الحوار والتواصل بين الناس؟!.. التكنولوجيا تسهّل لنا الحياة ولكنها لا تنتج العلاقات الإنسانية.
ركّزت على التفاصيل في تصميمك لهذه الشخصيات كبيرة الحجم، كيف كانت ظروف إنجازك لهذا المعرض؟ لست أنا الذي صنع هذه الشخصيات كبيرة الحجم، بيد أنّني قمت برسمها ليتم أخذها عبر وكالة للاتصال إلى شركة ببرج بوعريريج، قامت بتكبير الشخصيات وتصنيعها من مادة البوليستيران، فالأعمال كبيرة الحجم تتطلّب ورشة كبيرة لاحتضان هذه الأعمال، وهو ما لا أتوفّر عليه، حتى إنّني اضطررت بمناسبة معرضي الأخير الذي يضم لوحات مترين على متر، لإنجازها في فناء ببوسعادة.
لماذا لا يتّجه الكثير من الفنانين التشكيليين إلى الفن التركيبي؟ لأنّ الفن التركيبي يتطلّب إمكانات كبيرة، إضافة إلى أنّه من الصعب جدا أن يبيع الفنان أعماله؛ لأنّ الفن التركيبي يتضمّن أعمالا لها صلة ببضعها البعض اللهم إلا إذا توفّر المشتري على فضاء كبير أو تشتري مؤسسة أعمالا من هذا النوع تتناسب مع ثقافتها، ومع ذلك يمارَس هذا الفن بكثرة على مستوى مدرسة الفنون الجميلة.
لماذا لا يشارك الفنان في تزيين المؤسسات والشوارع مثلا؟ حبذا لو تمكّنا نحن الفنانين من التعاون مع المهندسين لتزيين الطرقات والمؤسسات وغيرها، كما يجب الاعتراف بأصلية المنتوج الفني والابتعاد عن التقليد وكذا التفرقة بين ما هو مصنوع باليد وما هو وليد الآلة. ولازلت لا أفهم كيف أنّ الجزائري ربما من دون قصد، يشتري النسخة المقلَّدة بنفس سعر النسخة الأصلية، ولا كيف يتم، مثلا، اختيار زربية اصطناعية للمساجد رغم أنّها تطلق رائحة كريهة عندما تصاب بالبلل، ولا حتى كيف تشتري البلديات والدوائر ”تحفا” مصنوعة بالآلة من الصين، ولكنني أعتقد أنّ الأمور ستتغير، والعودة إلى الأصل ضرورة لا مناص منها.
هل دكمان بصدد إنجاز معرض جديد؟ نعم هو كذلك، فأنا بصدد التحضير لثلاثة معارض في الوقت نفسه؛ بحيث أنتقي موضوعا واحدا وأغيّر من الشكل والتقنية والألوان والمواد المستعمَلة. وفي هذا السياق، اكتشفت في الشقة التي استأجرتها، ورقة لنوتات موسيقية صاحبها من الأقدام السوداء، فكانت نقطة البداية؛ حيث اخترت أن أقدّم عملا عن الموسيقى. أمّا المعرض الثاني فسيكون حول فن الخط الحديث البعيد عن التقليدي. والثالث حول إفريقيا؛ باعتبارنا بلدا إفريقيا، هو الحاضن للبشرية الأولى.
هل من مموّل لهذه المعارض؟ الحديث في هذا الأمر ذو شجون؛ فحالما أنهي إنجاز أعمالي الفنية أنطلق في عملية البحث عن الفضاء الحاضن لها. أمّا عن الممولين فهي قضية شبه مستحيلة، ففي المعرضين السابقين قمت أنا بالتمويل، إلا أنّني استفدت في معارض أخرى من ممولين رغم ندرة هذا ”الحدث”، وأرسلت طلبا في هذا الخصوص إلى الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة، ولم أتلقّ أيّ رد. وحتى بالنسبة لأصحاب المؤسّسات فإنّني لا أفهم عدم تمويلهم للأعمال الفنية رغم أنهم في هذه الحال، سيستفيدون من تخفيض في الضرائب.