تعتبر الرواية خطابا سرديا متخيلا ينهض على منطق خاص ومقومات محددة، وله أساليب وتقنيات يوصل بهما مضمونه، وعبرهم يتأسس ميثاق التواصل (الاتفاق) بين الكاتب الموضوعي الخارجي والقارئ الحقيقي والافتراضي في آن. إن الرواية هي كذلك الطريقة التي تبنى بها الحكاية، والطريقة التي يروى بها المحكي، أي أن صيغة المحكي هي الأساس في منح الرواية الخصوصية الأجناسية التي تميزها عن باقي الأشكال السردية المجاورة لها؛ كالقصة والسيرة الذاتية والغيرية واليوميات والمذكرات... اختارت رواية "دمية النار" لبشير مفتي طريقة (صيغة سردية) في سرد محتوياتها مثيرة للسؤال: بمعنى أنها توقع القارئ الناقد في حيرة، هل هو أمام "رواية" أم "سيرة ذاتية"؟ وسؤال النوع اليوم في الخطاب السردي بات ذاته محط سؤال: هل الأنواع السردية (الأدبية) الآنية تقبل الفصل بينها؟ هل المتلقي يلقي بالا للفوارق بينها في الأساليب والتقنيات؟ ماذا يهم المتلقي من الرواية والسيرة الذاتية والغيرية؟ ماذا يهم الكاتب تحديدا؟ هل من الضروري تحديد نوع الخطاب السردي؟ وهل النوع السردي استجابة لمتغيرات الوعي أم تلبية لرغبة الكاتب أو المتلقي؟ وهل النوع السردي يكون تعبيرا عن الواقع أو تعبيرا عن ثقافة عصره؟ ... يبدو أن سؤال النوع الأدبي حاليا ملتبسٌ بالتباس الوعي وثقافة المرحلة، وأن المرحلة لم تعد تقبل "بصفاء الأنواع الأدبية" عموما و"السردية" خصوصا، فالتداخل وانسجام غير المنسجم إمكانية من الإمكانية الجمالية، وأسلوب من بين الأساليب التي تقترحها الذائقة السردية المعاصرة للتغلب على الحدود الصارمة المقيدة، وللتعبير عن الواقع الخارجي، وللتعبير عن وعي ونفسية الكاتب. اشتغلت رواية بشير مفتي "دمية النار" على التمويه، وعلى التركيب في آن؛ قامت بالتمويه بين "الروائي" مقدم المخطوطة "المتن السردي" المحايد وبين "رضا شاوش" صاحب المخطوطة "السارد والشخصية الرئيسة". ويركب بين نوعين سرديين هما: الرواية والسيرة الذاتية. فالروائي يقوم بوظيفة خارجية يرسم عبرها الإطار العام الذي أهله لنشر "المخطوطة"، وهي وظيفة كلفها بها "رضا شاوش" في قوله في رسالة إلى الروائي:" ...وإنني لأتمنى صادقا أن تكتب اسمك في أعلى صفحتها، وتنسبها لنفسك فتكون بالنسبة إليك كقصة خيال مروعة على أن يراها الناس حقيقة مؤكدة.." ص (20) ويقول الروائي في تقديمه "معترفا" ومصرحا:" لقد كتبت هذا التقديم فقط لأنسب لنفسي ما كتبته أنا، ولأترك صوته يحكي قصته كما كتبها هو، على لسانه، متمنيا طبعا أن يكون الرجل على قيد الحياة، وأنه سيقرأ كتابه كما تركه لي بلا أي تغيير أو رتوش.." ص (21). هناك صوتان؛ صوت "الروائي" في المقدمة، وصوت "رضا شاوش" في باقي المتن السردي، وهو محكي ذاتي مشتمل على كل مقومات السرد السير ذاتي من بوح واعتراف وتدفق سردي ":محكي ملتاع"، وضمير للمتكلم، وتنسيب الأحداث والوقائع. وقد وجد النقاد لهذا النمط من الكتابة السردية مفهوما نحتوه هو: الرواية السيرة أو السيرة الرواية، بحسب المقومات الغالبة والمهيمنة. يقوم كتابة السيرة الرواية على خصائص السيرة الذاتية (مقوماتها) كمحكي الذات بضمير المتكلم، وربط الأحداث والوقائع بالشخصية الرئيسة التي هي ذاتها الكاتب والسارد، لكنها يصاغ عبر التركيب الروائي وتداخل مستوياته وتنوع وتعدد الخطابات التي تتخلله كالرسالة والحكاية والقصة، والشهادة والاعتراف... يتشكل الفضاء الروائي في "دمية النار" من أماكن عدة، لكن من بينها ما يدعم مفهوم "المتخيل المختلف" كالحديث عن السجن عبر شخصية كريم أخ رانية مسعودي وشخصية الشيخ أسامة الداعية، والحديث عن الحي القصديري الذي سكنته رانية مسعودي مع زوجها علام محمد الذي فضلته على رضا شاوش. ومن اللافت للنظر الأوصاف المنحطة التي يتضمنها المجتزأ الآتي:" ... لقد اختارت الرجل الذي يناسبها فلماذا أريد أن أحرمها من هذه النعمة البسيطة؟ قبلت أن تسكن معه في تلك الأماكن البشعة، حيث الحياة بالكاد تشبه الحياة، الدنيا هناك قذرة، والناس تعساء بالفطرة، يرقدون وينامون مع الحشرات، والفئران، والوسخ المتراكم، ولا يحلمون بأي شي.." ص (104) ويضيف:" ... ورحتُ أراقب المكان بغير حب فظهر لي الحي أشبه ما يكون بالحزام الطويل الذي تتشابك فيه الأكواخ المصنوعة من الطين والحديد المهمل، والمغطى بأغصان النخيل، وعجلات السيارات المحروقة، سواقي لمجاري القاذورات، أطفال يلعبون، مراهقون يشربون ويزطلون، حياة مهمشة بالكامل، فقر ومذلة، تشعر كأنهم بعوض متعفن وسام، لا أحد يقترب منهم كان الجو ملفوفا بغمامة رمادية ورائحة المطاط المحروق والبول، والروث، حيوانات تعلف من بقايا حشيش غير صالح لإنعاش الطبيعة، وجوه مقفرة فارقتها الحياة بالتقريب، تساءلت ماذا تفعل رانية هنا؟ لماذا تقبل بهذا الضنك؟ بهذا العيش السقيم في أقصى درجات الانحطاط والخوف، مددت بصري فإذا بالحي الفوضوي القذر يمتد إلى ما لا نهاية مشكلا مدينة صغيرة مترعة باليأس، والإهمال، والتعفن.." ص (105) السجن والحي القصديري والأحياء الخلفية (سواء تعلق الأمر بالأحياء الهامشية من قصدير وصفيح كما وظفها المرحوم محمد زفزاف أو الدارات في الأحياء الراقية المحروسة والمتسترة وراء البهرجة كما وظفها عبد الستار ناصر) من الملامح الأساسية لتشكيل الفضاء الروائي، لأنها الإطار العام الذي تتحرك داخله الأفعال القذرة والشاذة، والأفعال التي لا تؤمن إلا بمنطق العنف، والفوضى، ولأنها الإطار الذي تتشكل فيه أبعاد الشخصية الروائية المضادة للشخصية الروائية التي عرفتها الرواية العالمية الرومانسية المثيرة للشفقة والمشاعر الإنسانية، إنها شخصيات عنيفة وحاملة لقيم مضادة كانت الرواية تتستر على وجودها وتعتبرها غير قابلة للانتقال إلى الخطاب الروائي والأدبي. و يرتبط الحديث عن الحي القصديري في "دمية النار" بسؤال جوهر أرق فكر رضا شاوش، وهو: كيف فضلت رانية مسعودي علام محمد عنه، هو الذي أحبها وتوله بها منذ الطفولة؟ ولماذا اختارت رانية مسعودي السكن في ذلك الهامش القذر والمنحط وسيئ السمعة؟ فهل السؤال الذي أَرَّقَ شخصية رضا شاوش هو سؤال الحب أم أنه سؤال المرأة؟ هما معا، لكن سؤال الحب كان أكثر حضورا؛ كيف ينشأ؟ لماذا لم تبادل رانية مسعودي رضا شاوش المشاعر ذاتها رغم علمها؟ ماذا وجدت في علام محمد ولم تجده في رضا شاوش؟ الجواب عن هذه الأسئلة المحيرة والواسعة كان واضحا وصريحا في قول رانية:" - أعرف أنك تحبني، أو أنك أحببتني ذات يوم وبقيت تتمنى أن أكون معك. تبدو الشخصيات الروائية رهينة قدرها الحتمي الذي يشكل "المتخيل المختلف" في الحياة الهامشية وفي الحياة المتوارية خلف الأقنعة، الشطط والعنف وامتهان كرامة الآخرين، لكن الوقائع الثلاث تفصح عن نهاية قصدية مختلفة: - ادعاء والد رضا شاوش الجنون قبل قتله. - صحوة الرجل السمين قبل قتله. - مخطوطة رضا شاوش موضوع الرواية. هل من الممكن القول بأن طريق الشر تقود إلى القتل، وأن طريق الشر لا عودة منه، وأن الشر ليس طبيعة بشرية، أو هو رغبة يغذيها الحقد والخيبة والتعطش إلى السلطة ؟؟؟ إن الطريق الذي رسمته شخصية رضا شاوش في "دمية النار" يكشف عن صراع وجودي بين إغراء السلطة وبساطة العيش، بين فئة الأسياد وفئة العبيد، وتكشف عن وجود أكثر من جهة في تقرير المصائر. لكن الأهم أن الرواية-السيرة الذاتية خاضت في تجربة حياة عبثية انتقلت من الظل إلى العزلة، من الإنسان إلى اللاشيء، يقول رضا شاوش:" يوما بعد آخر صارت حياتي شبحية، وصرت أحيانا أشعر أنني غير موجود، وأغرق في ذاكرة منتهية، وأنتفي في جغرافيا غير مرئية، وأنهض ولا أنهض، وأحلم بقطرات قليلة من الدموع، حتى يوم توقيت والدتي لم أبك..." ص (150.149) إن الإنسان في صراعه من أجل تحقيق الذات قد يصيب عندما يختار بحرية وإرادة الحياة التي تكون فيها شخصيته متوازنة متناغمة مع الموجودات الأخرى، فيها الكثير من البذل، والكثير من الأخذ، لكن الصراع سيظل أيضا محاصرا بالرغبة في التملك والسيطرة والاستغلال والاستبداد. ولن يهدأ هذا الصراع إلا بانتشار الوعي والعيش الكريم والاحترام المتبادل للحقوق، والقدرة على القيام بالواجبات.