قدم الرئيس بوتفليقة نقدا ذاتيا عن كيفية تعاطي الدولة مع ملف الاستثمار في السنوات الماضية، واعترف بأن الطريق الذي تم انتهاجه لم يكن ذلك الواجب أن تسلكه، ومن ثمة استوجب تغيير "الاستراتيجية المتبعة". ورسم الرئيس بوتفليقة، في خطابه أمام رؤساء المجالس الشعبية البلدية، خارطة طريق جديدة تخص ميدان الاستثمار، حيث تكون الأولية "للداخل على الخارج" باستثناء إذا ما رضي المتعاملون الأجانب بقانون اللعبة الجديدة التي سطر خطوطها الرئيس بوتفليقة في كلمته. وما يجعل حديث الرئيس بوتفليقة بخصوص ملف الاستثمار الأجنبي محط المتابعة هي تلك العناية التي أولاها للموضوع في خطابه اول امس امام "الاميار" فقد كانت فترة خروجه عن النص المكتوب أكثر من الوقت الذي استغرقه في قراءة الوثيقة المكتوبة، وأسهب في شرح موضوع الاستثمار في اكثر من محطة، ووصف واقع الاستثمار الأجنبي ب "الأمر الخطير" وقال "إن ثمة أمر خطير يجب الحديث عنه" قبل أن يفصل في الموضوع، ومن زوايا عدة، اهمها تلك المتعلقة بضعف تلك الاستثمارات، وأكثر من ذلك استفادتها من التحفيزات التي تمنح لهم في إطار الانفتاح لكي تدر "لخزائن أصحابها" الملايير دون أن تستفيد الخزينة العمومية من تلك الأرباح، وقدم مثالا عن فتح للسوق ب 700 مليون دولار في وقت تجاوزت أرباح هؤلاء الملياري دولار. ولكن الرئيس بوتفليقة حرص في هذا الشأن على القول إن الأمر ليس تجريحا ولا طعنا في أي أحد، بل نقد ذاتي تتحمله الدولة، مما يجعل طرح استفهامات كثيرة عما تتضمنه السياسية الجديدة للاستثمار؟ وهل سيتخلى الرئيس عن دعوة المستثمرين الى ولوج السوق الوطنية بالنظر الى التحفيزات التي تضمنها؟. منذ بداية العهدة الأولى للرئيس بوتفليقة وهو يؤكد أنه يتسول -على حد تعبيره- من دولة الى أخرى قصد إقناعهم بالفرص التي يتيحها السوق الجزائري، واليوم يؤكد أن السياسة المطبقة منذ سنوات لم تدر على الاقتصاد الوطني ما كان منتظرا الى درجة كما قال إن "بعض المستثمرين يشترون شركات عمومية مفلسة قصد إنعاشها "وبعد مرور خمس سنوات يقومون ببيع العقار بالمتر المربع" مما يعني أن التوجه الذي كان سائدا والمتمثل في التخلص من 1200 مؤسسة عمومية لم يكن صائبا، وأنه يجب تدارك الوضع، وهذا ما جعل الرئيس بوتفليقة يعلن عن شروط جديدة تخص تنفيذ سياسة الاستثمار، وهي أن "من يدفع هو من يستثمر، وأن الدولة لن تتنازل عن القيمة الحقيقية لتلك الشركات مهما كانت جنسية المستثمر". وأكثر من هذا فإن اختيار النشاط سيكون خاضعا "لغربلة" من نوع خاص على أساس ان الكثير من المشاريع الاستثمارية تصنف في خانة "الاستثمارات الطفيلية" التي لا تساهم في النهوض بالاقتصاد الوطني وبرفع قيمته المضافة. ويتضح من خطاب وتوضيحات الرئيس بوتفليقة أن سياسية الاستثمار ستتغير راسا على عقب ولن ينظر الى الرأس المال الأجنبي على انه"المنقذ" للاقتصاد الوطني بل انه يعد المكمل وفقط وان قواعد القبول وتسجيل المشاريع ستتغير وانه لا سبيل لمن يقدم الفتات من اجل نيل الاموال الضخمة، وان الاستثمار ليس غاية في حد ذاته كما كان يعتقد في وقت سابق بل وسيلة لتحقيق التنمية المنشودة. وربما التوجه الجديد للدولة هو الذي دفع بوزير الطاقة والمناجم شكيب خليل للتراجع عن دفاعه عن الفكرة، ورأى في تصريح له اول امس ان الأولوية يجب أن تكون لتوظيف احتياطات الصرف في الاستثمار الوطني. ويتذكر الجميع أن رئيس الحكومة الحالي احمد اويحيي انتقد لما كان خارج هيكل الجهاز التنفيذي طريقة تعاطي الحكومة مع ملف الاستثمار، ورأى في تهافتها نحو جلب المستثمرين خطأ استراتيجيا، ورافع من اجل منح الأولوية للاستثمار الوطني قبل الأجنبي وتوظيف الراحة المالية في اقامة مشاريع وطنية خالصة، وتكون تصريحات الرئيس بوتفليقة في القاعة البيضاوية عبارة عن صك على بياض لأويحيي لتنفيذ ما كان يدافع عنه عندما كان لا يملك سلطة القرار. وما لا شك فيه أن التوجه الجديد في سياسة الاستثمار ستكون بإعطاء الأولية للداخل على الخارج.