اكتشفت المسرح خلال مرحلة الثمانيات، ويعود الفضل في ذلك لأستاذ اللغة الفرنسية محمد بن سليمان الذي ينتمي لأعيان مدينة بوسعادة، جاء إلى العاصمة للدراسة في السبعينات، واستقر بها، و عمل كأستاذ للفرنسية في الثانويات كان أستاذا من نوع نادر يتحول درس الفرنسية في حصته إلى منهل للثقافة العامة. كان مثقفا ماركسيا، وبفضله اكتشفت الفكر الإنساني في بعده الماركسي، دون أن أتأثر به، فقد حملت في داخلي بوادر ليبرالية منذ الصغر، وكنت توّاقا للحرية والحداثة كما وُضعت أسسها في أمريكا، وهذه الثقافة الليبرالية هي التي انتشرت في مرحلة الثمانيات عقب الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس بن جديد إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، عقب المساهمة الفعالة في الإفراج عن الرهائن الأمريكيين في طهران. وقد عاد الرئيس من واشنطن ومعه مسلسل "دالاس" الشهير كهدية. وكان الجزائريون أول من شاهد المسلسل بعد الأمريكيين طبعا. وقد أرسى "دالاس" طباعا ليبرالية جديدة في المجتمع الجزائري، منها الفردانية والأعمال التجارية الحرة. هذا ما أعطى جيلي تلك الرغبة الملحّة في مناهضة الماركسية، لأننا أبناء الثقافة الأمريكية. ولما برز تيار المحافظين الجدد في عهد الرئيس جورج بوش الابن، وانتشار فكرة صدام الحضارات، واعتبار العالم الإسلامي بمثابة "الشر المطلق"، وقعنا في مأزق حقيقي، وهذا حديث أخر. كان الأستاذ بن سليمان إذن ماركسيا، وكان يدرس لنا كارل ماركس وهيغل، وكان يدفعنا إلى الحوار، وذلك أهم شيء في حصته، كان إنسانا ديمقراطيا، يحتفظ بأفكاره لنفسه، ويحثنا على التفكير. كانت تغمرني السعادة في حصته. سعادة اكتشاف الأفكار والفلسفات الكبرى. وتبقى أهم ذكرى أحتفظ بها آنذاك، هي اكتشافي للمسرح. ففي شتاء عام 1986، أخذنا إلى المسرح الوطني الجزائري، لمشاهدة مسرحية "الأجواد " للمرحوم عبد القادر علولة. كم كانت دهشتي كبيرة، وأنا أدخل بهو المسرح الوطني لأول مرة، وفي يدي تذكرة دفعت ثمنها بخمسة وعشرون دينارا، وفجأة تقدم مني رجلا في الخمسين من العمر، وأبدى رغبته في شراء تذكرتي. أخبرني أنه سيعطينني ضعف سعرها. لكنني رفضت. فأخبرني الأستاذ بن سليمان أن علولة مسرحي كبير، والناس مستعدون لشراء تذكرة الدخول بدفع ضعف الثمن وأكثر، فزاد فخري، وأنا أدخل المسرح لأول مرة في حياتي. أحسست أن المسرح ليس مثل السينما، فالناس الذين كانوا يأتون لمشاهدة المسرحية، كانوا يختلفون كثيرا عن رواد قاعات السينما، أغلبهم يضع شالا أحمر اللون، وعلمت لاحقا أن ذلك كان رمزا لميولهم الأيديولوجية، واكتشفت لاحقا رغم حداثة سني أن جمهور علولة كان جمهورا يساريا، جاء لمشاهدة مسرحية سياسية. كان المسرح غاصا بالجمهور. حتى الشرفات الثلاث امتلأت عن أخرها. وكان الجمهور محموما إلى درجة الهستيريا، ففي كل مرة ينطق أحد الممثلين بكلام يهز مشاعرهم، حتى تراهم يصفقون طويلا، وقد نهضوا من مقاعدهم، وظلوا يصفقون لفترة طويلة. أدركت أن المسرح كان آنذاك منبرا سياسيا. يقصده الناس للاستماع لخطاب مسرحي ينتقد السلطة بشكل عنيف، وكان نظام الشاذلي بن جديد يسمح بذلك، بعد شروعه في سياسة الانفتاح. وبعد مرور بضعة سنوات، ظهرت الأحزاب السياسية، وأصبحت توجه نفس الانتقادات للسلطة. وأتذكر أنني حاورت مدير المسرح الوطني الجزائري سيد احمد أقومي سنة 1991، وسألته إن لم يكن يخشى أن يحجم الجمهور عن المجيء للمسرح، بعد ظهور الأحزاب السياسية التي أصبحت تقدم خطابا نقديا، كما كان يفعل المسرح، فقال لي "صحيح، ليس بإمكاني أن أرقى لمستوى النقد الذي تقدمه مناضلة مثل لويزة حنون". لقد كان المسرح الجزائر أسير الخطاب السياسي، فانتهى دوره مع ظهور الأحزاب السياسية. وهو ما دفع المرحوم عبد القادر علولة إلى تغيير نظرته للمسرح. ربما يكون قد اكتشف أنه أخطأ لأنه وضع المسرح الجزائري على قاطرة الخطاب السياسي، فتخلى عنه بعد أكتوبر 1988 ، وأصبح من أنصار مسرح مختلف يخاطب الإنسان، ويشتغل على الجماليات، أكثر من اشتغاله بالخطاب السياسي. لقد أصبح علولة من أنصار مسرح الكوميديا ديل أرتي، وانتهى عهد المسرح الذي يحمل خطابا سياسيا.