رغم أن كلمة "استفادة" لا يمكن أن ترد هنا بمعناها اللغوي الإيجابي، فإن السؤال الذي يبرز بإلحاح هو، من المستفيد من أحداث بريان التي أخذت منحى آخر وصارت شبيهة بحالة النار في الهشيم، كلما اعتقدنا أنها أخمدت، ارتفع لهيبها مع أولى النسائم. المؤكد في حالة بريان أن ثلاثة أرباع الجزائريين لا يعرفون الأسباب التي شكلت الشرارة الحقيقية لظهور هذه الفتنة، وأكاد أقول إن ثلاثة أرباع الفاعلين الرسميين في هذه الفتنة لا يعرفون الأسباب التي جعلتهم يفجرون ويقودون أزمة خطيرة في منطقة بريان المسالمة. آخر الأخبار الواردة من بريان تقول إن أحداث أمس الأول "الجمعة"، خلفت عشرات الجرحى في صفوف المواطنين ومختلف أسلاك الأمن، بالإضافة إلى خسائر مادية كبيرة، منها إحراق محلات تجارية وعشرات الأشجار المثمرة إثر " معركة" تتجدد في كل مرة لتضيف أرقاما جديدة إلى أرقام الخسائر السابقة. على هذا النحو بالتمام، تبدأ الأزمات، وبمثل هذه الصورة تتطور إلى فتن داخلية قبل أن تأخذ شكلها النهائي وتتجذر ثقافة في المجتمع، وبمثل هذا الوصف تقريبا بدأت فتنة الجزائر الكبرى لو تذكرون، مع اختلاف في الظروف والبيئة وحتى المسببات. وإذا كانت الفتنة الكبرى التي عاشتها الجزائر، وما تزال بعض إرهاصاتها ماثلة إلى اليوم، تقتضي حديثا آخر وسياقات أخرى، فإن فتنة بريان لا تقل عنها خطورة لأسباب كثيرة، أبرزها أن المجتمع الصغير لمدينة بريان، على اختلاف مشاربه وأطيافه، هو مجتمع عشائري، وقد تعلمنا من دروس وحكايا التاريخ أن الفتنة داخل المجتمعات العشائرية تكون أشد فتكا وخطورة من الفتنة داخل المجتمعات الأخرى.. هكذا علمنا التاريخ في صفحة خاصة عن حرب داحس والغبراء بين قبيلتي عبس وذبيان، حيث مازال الناس إلى يومنا يذكرونها على سبيل الاستحقار، مع أنها تعد من أطول الحروب التي عاشها وخاضها العرب في زمن الجاهلية مع الفرق بالطبع. ومع كل هذه المقاربة، يظل العاقل مطالبا بتجنب أي مقارنة بين مفهوم العشيرة في ذاك الزمن ومفهوم العشيرة في زمننا الحاضر، ولنا في التاريخ الجزائري الحديث دروس رائعة تبعث على الفخر عندما يتعلق الأمر بدور ومهام العشيرة في التماسك الاجتماعي وفي عملية بناء المجتمع، وفي الحفاظ على روح المواطنة وغرس القيم الجماعية في الفرد، تماما مثلما يحث عليه ديننا الحنيف، وشرعته منظومتنا الاجتماعية، وحفظته تقاليدنا العريقة. منذ عشرات، بل مئات السنين، وإلى يومنا هذا، كان وما يزال مجلس العشائر في كثير من المناطق الجزائرية يشكل "دولة تقليدية" تمثل بدورها امتدادا للدولة العصرية، مجلس يحكمه صوت الجماعة، ويديره عقل الجماعة، ويخطط له فكر الجماعة، ومن برامج وتشريعات هذه الجماعة عرف الكثير منا مفهوم ومدلول "الدولة"، قبل أن يتعرف عليه من صفحات الكتب ومحاضرات الأساتذة. كثيرة هي القضايا الاجتماعية التي استعصى حلها على الدولة، ولكنها بمجرد أن طرحت في مجلس العشائر، لانت ووجدت طريقها إلى الحل النهائي، وكثيرة هي الخلافات الحادة التي دخلت إلى هذه المجالس في شكل فتن كبرى، ولكنها خرجت منها في شكل صداقات، ليس لأن الدولة أضعف من العشيرة كما قد يفهم هنا، ولكن لأن قيود الفرد داخل العشيرة أكثر من قيوده داخل الدولة، ولأن المجتمع العشائري هو أقرب إلى " الروحانيات" منه إلى الماديات، فإن الفرد هنا أكثر إيمانا بأن "يد الله مع الجماعة". حتى الآن، اعترف أنني أجهل تماما الأسباب الحقيقية التي تقف وراء فتنة بريان، ولكني في الوقت ذاته أزعم أنني متيقن من نجاح أهل بريان، لو أنهم بادروا إلى إخماد نار هذه الفتنة بشكل نهائي، وليس معنى ذلك أن نتجاهل دور الدولة بمختلف مؤسساتها، بل يكاد العاقل يعتقد بوجود تقصير في الموضوع، لأن الدولة أقوى من "مجموعة لاعببن" يتسببون في إزهاق أرواح الناس، ويخربون ممتلكاتهم. هناك عدد من المنتخبين المحليين، يعاب عليهم قصورهم في إخماد نار هذه الفتنة، وهناك أحزاب سياسية كثيرة، يعاب عليها تراجعها أمام هذا الوضع الذي يزداد تأزما، وفي كل الأحوال، هناك مستفيدون من فتنة بريان حتى وإن لم نكن نعرفهم. سعيد مقدم