أخيرا، أهدت الدار العربية للعلوم " ناشرون" ومشروع " كلمة" في أبو ظبي، بالإشتراك مع الكاتبة المترجمة مي عز الدين، ولأول مرة منذ صدورها العام 2008، النسخة العربية لرواية " غومورا" لكاتبها الإيطالي روبرتو سفيانو. وكلمة " غومورا" لمن لا يعرفها من قراء العربية، هي مصطلح إيطالي مركب من كلمتين، " كا" وتعني الزعيم، و" مورا" وتعني الشارع، وعندما تلتئم الكلمتان تشكلان كلمة " كامورا"، ويحيل معناها مباشرة على إحدى أكبر المنظمات السرية الإجرامية في قارة أوربا، وربما في العالم برمته، ومن هنا يظهر المفتاح السري للرواية التي دوخت العالم واهتم بها الساسة كما الأدباء، وجعلت من صاحبها أشهر من نار على علم، ولكن في المقابل جعلت منه الرجل الأكثر استهدافا في العالم من طرف المافيا. في رواية " غومورا" التي تُرجمت إلى أكثر من أربعين لغة في العالم ( آخرها العربية قبل أيام قليلة)، وبيع منها نحو مليونا نسخة، وهو رقم مرشح للمزيد بالتأكيد بعد ترجمتها إلى العربية، يخوض المؤلف سفيانو في عالم غريب، وبأسلوب مباشر بعيد عن الرمزية ينقل القارئ إلى مسرح الجريمة، حيث نوافذ البيوت المكسرة، وجثث القتلى المشوهة بالرصاص، وحيث الإرهاب الحقيقي في ذروة وحشيته، ومن هذا المسرح المروع يدون شهادته كما أملاها عليه ضميره الحي متجاوزا الخطوط الحمراء التي كثيرا ما شوهت نصوص أدباء كبار وجعلت منها حكايات مبتورة، ومُركزا على تفاصيل دقيقة في عالم المافيا الإيطالية حيث سمى زعماءها وأعوانهم من قبيل سكيافوني ويوفيني وزاغاريا، وكلهم من عائلة " كامورا" بنابولي. بعد صدور الرواية، وفي غمرة الاحتفالات المتواصلة بالنجاح الكبير الذي حققته، كان رجال المافيا يرسمون الخطة الكاملة للتخلص من المؤلف الذي اعتبروه " شخصا مزعجا ووقح ينبغي تصفيته جسديا"، واستقر الرأي على تفجير سيارته خلال عبورها ما بين روما ونابولي كما كشف عن ذلك أحد أعضاء ال " كامورا" التائبين مما اضطر وزير الداخلية إلى انتداب مجموعة لحمايته، وفي مرحلة لاحقة إخراجه من نابولي مؤقتاً، وفي هذه الأثناء كان اسم سافيانو يملأ الدنيا، فتعاطف مع قضيته شخصيات عالمية منهم مجموعة من الأدباء الحائزين على جائزة نوبل، نشروا بياناً بمساندتهم له، والروائي والفيلسوف الشهير أمبرتو إيكو الذي وصفه بالبطل القومي. أتوقف هنا عند هذه الوقائع، وعند هذا الإنجاز الأدبي الكبير الذي حققه كاتب إيطالي شاب وأنا أستحضر مشهدنا الأدبي، وقد عادت بي الذكرى إلى سبع سنوات مضت، عندما تلقيت دعوة شخصية من طرف إحدى الجمعيات الثقافية لحضور ملتقى أدبي يعنى بالرواية وبالروائيين الشباب في الجزائر. أذكر تفاصيل ذلك الحدث الثقافي، ولكن لحد الآن ما زلت أجهل لماذا انتابني شعور وتلبسني اعتقاد بأن الملتقى الأدبي الذي دعيت إليه لا يختلف في شيء عن الجلسات السرية التي كانت في عهد الحزب الواحد تسبق مؤتمرات الحزب العتيد حيث تحاك المؤامرات وتنسج الخطط ويفصل في الأمور ليأتي المؤتمر مناسبة للإعلان عن النتائج. وعلى هذا النحو سارت أمور الملتقى الذي أتحدث عنه، حيث وافق أن كان منظم الملتقى مدينا لناشر بمبلغ مالي، فاتفق الطرفان على أن يكون تسديد الدين بجائزتين، الأولى للناشر الكاتب عن كتاب له، والثانية للدار عن نشاطها الأدبي. في اليوم الثاني غادرت الملتقى وأنا أشعر بذنب كبير اقترفته بتلبيتي للدعوة، وعدت إلى الجريدة التي أشتغل بها يملأني الندم بعدما تيقنت أن دعوتي كانت بسبب وظيفتي رئيسا للقسم الثقافي بجريدة كبيرة، حتى أساهم في الدعاية المجانية للملتقى وليس كروائي شاب، ويومها كتبت عمودا صحفيا تحت عنوان " أدب الرعاية السامية" أدنت فيه الواقعة، وقلت "لن يتقدم أدبنا خطوة واحدة في ظل هذه الممارسات الستالينية" التي تزور تحت غطاء " الرعاية السامية"، تصرف الأموال، تنتهك الأعراض وتنسج علاقات مشبوهة بعيدا عن الأدب، فقامت الدنيا ضدي، وإلى يومنا الحالي لا يكلمني منظم الملتقى وصاحب دار النشر المتوجة. ونظرا لضيق المساحة أتوقف هنا دون أي إضافة، واترك لكم مهمة المقارنة بين أدب من الصنف الذي تنتمي إليه رواية " غومورا" وأدب من الصنف الذي ينشط تحت غطاء " الرعاية السامية". سعيد مقدم