جاء في خبر تداولته بعض الصحف الوطنية الصادرة أمس، أن وثيقة ذات طابع اقتصادي، تتداول منذ مدة في أوساط المستثمرين، تتضمن فقرة أقحمها مستثمرون أجانب، يشترطون من خلالها توقيع الطرف الجزائري في تعاملاتهم على تعهد يلزم هذا الأخير بعدم تلقيه رشوة أو حتى هدية " مهما كان نوعها '' خلال تعاملاتهم التجارية المتعلقة بمختلف صفقات المشاريع. الملفت للانتباه في تفاصيل الخبر، أن '' إطارات '' جزائرية، نددت بمضمون الوثيقة المتداولة، واعتبرت شرط عدم اللجوء إلى الرشوة في مختلف الصفقات بمثابة '' إهانة، وضرب لمصداقية وأمانة المستثمرين الأجانب ''. لعل أول ملاحظة يقف عليها قارئ هذا الخبر، مهما كان مستواه وتوجهه، وبغض النظر عن جنسيته، هي '' لماذا هذا الشرط '' ؟، ولماذا الجزائريون دون غيرهم من البشر العاملين في مجال الاستثمار؟ الجواب قد لا يحتاج إلى جهد كبير، أو خبير في الاقتصاد ليبرر هذا الشرط، وأي عاقل يمكن له أن ينظر إلى الموضوع برؤية عقلانية، ولا يعتبر ذلك بمثابة '' إهانة '' للمحيط الاستثماري في الجزائر، لأن الإهانة الحقيقية تترتب عن وجود ظاهرة إسمها الفساد، والفساد موجود في مجتمعنا بدرجة مقلقة، أحببنا أم كرهنا، فكيف لا نشعر بالإهانة من وجود الفساد المنبوذ في جميع الشرائع والقوانين الوضعية، وتأخذنا العزة بأنفسنا، عندما يطالبنا الغير بتطهير أنفسنا من هذا الورم الخبيث إذا أردنا التعامل معه؟ أعتقد أن مظاهر الإعتزاز بالنفس، تبدأ من تطهير هذه النفس من جميع " الموبقات '' والشوائب، لأن الإقرار للفاشل بالنجاح يعد خديعة مشجعة على الفشل، والشهادة للسارق بحسن السلوك والاستقامة تعد جريمة وتشجيعا على اللصوصية، ونحن والحال هكذا علينا الإقرار والاعتراف بانتشار ظاهرة الفساد في مجتمعنا، لأن الأرقام المنشورة يوميا على صفحات الجرائد، أصبحت مخيفة، والتصريحات التي نقرأها يوميا على ألسنة مسؤولين في مختلف أجهزة الدولة، تؤكد أن ظاهرة الفساد في الجزائر أصبحت جرما لا يمكن السكوت عنه، وأكثر من ذلك، نقرأ في الوثائق الدولية المتعلقة بالفساد، فنجد الجزائر تحتل مراتب مخيفة، وقارنوا إن شئتم أرقام السنوات الأخيرة، لتجدوا أن الجزائر قفزت من الرتبة 29 في عام 2008 ، إلى الرتبة 111 في عام 2009 ، بفارق 19 درجة في ظرف سنة واحدة، وهو رقم مخيف ومخجل للغاية بالنسبة للذين يحسنون قراءة الأرقام .. في عالم الطب، يقولون إن التشخيص الإيجابي للمرض، مهما كانت درجته يعني ضمان نصف العلاج، وكذلك الأمر بالنسبة لهذه الظاهرة المرضية التي تسمى الفساد وتنخر مجتمعا بكامله، يمكن القول إن تشخيصها الإيجابي يضمن نصف علاجها، والنصف الآخر يبقى مرهونا بعوامل أخرى، ومن أبلغ مظاهر هذا التشخيص الخاص بالفساد، هو اعترافنا رسميا بوجود الظاهرة المشينة قبل الحديث عن حلولها، ويجب أن لا نخجل من واقعنا، على الأقل ما دام الآخر يعرف عنا كل شيء . الفساد، ظاهرة مرضية وجدت منذ وجد الإنسان، والجزائر ليست البلد الوحيد المعني بهذه الظاهرة، لكن الفرق بيننا وبين الآخرين، أنهم يعترفون بأخطائهم وزلاتهم، وينطلقون من هذه الأخطاء لتصحيح واقعهم، أما نحن، فنغلب في كثير من الأوقات والحالات منطق '' معزة ولو طارت '' ، وتلك هي المصيبة .